أدّت حادثة 11 سبتمبر إلى إرباك كبير للمجتمعات الإسلامية وخصوصاً في مجال الفتوى، فظهرت فتاوى موغلة في التطرف والكراهية ومؤيدة للقتل كيفما اتفق، بداعي الجهاد، فأدى ذلك إلى ظهور فقهاء هامشيين إلى العلن، يستعرضون بآرائهم مدّعين بطريقتهم الخاصة أنها (فتاوى)، من خلال تقديمها إلى الجماهير بطريقة الحقيقة المطلقة!
وخلال العامين الماضيين ظهرت الكثير من الفتاوى الغريبة في المجتمع السعودي، تتراوح درجة غرابتها ما بين المقزز والمضحك! إلى أن أصدر خادم الحرمين الشريفين، قبل أيام قليلة، قراراً ملكياً مهما يقضي بضبط الفتوى وتقنينها بشكل رسمي ليقطع الطريق أمام أولئك الهامشيين "المتطفلين على مائدة الفتوى وطلب العلم الشرعي"، لتكون مثل هذه الفتاوى محصورة بهيئة كبار العلماء، ومن يجاز لهم الإفتاء من قبل سماحة مفتي المملكة، وهنا يكون الأمل فيهم أن يكون على قدر الثقة فيهم، فلا يبنون الآراء وفق تشدد شخصي ويتركون سماحة الدين الإسلامي واستيعابه لكل أمر من منطلق التسامح.
أهمية القرار الملكي كانت بتوازنه ومراعاته لحاجة المجتمع السعودي إلى الفتوى، حيث لم يتم منع تداول فتاوى التعامـلات الشخـصية التي تكون خاصة بين المفتي والمستفتي، فالقرار في ذات الوقت حصّن المجتمع عن خطورة الفتاوى المؤثرة سلباً على المجتمع، ومن خلال ذلك يكون دور هيئة كبار العلماء كبيراً وحساسا في دراسة الأمر قبل اتخاذ الفتوى، لأن مجتمعنا اليوم -نتيجة التطـور التقـني العالمي- أصبح جـزءاً من عالم متطور، وبالتالي يفترض أن يكون المجتمع السعودي شريكاً مؤثراً بشكل إيجابي في هذا التطور العالمي في العقود القادمة، ولكن في الوقـت ذاتـه يجب أن يؤخذ في الاعتبار أنّ النظرة السوداوية المشحونة بالخوف من الإسلام في المجتمعات الغربية، لن تتغير إلا إذا أثبت المسلمون أنهم يسعون للمشاركة في بناء وتطوير الإنسان في هذا العالم لا إلى تدميره.
نأمل في القرار أن يدشن مرحلة جديدة لتوازن الفتوى بعد أن عصفت بها آراء غريبة كرست الكراهية والافتراق في المجتمع، ورسمت لنا صورة كاريكاتورية في العالم، حتى أصبح كل من أطلق لحيته وقصّر ثوبه جريئاً على الإفتاء دون علم، هنا يجب أن تعود الفتوى على مصدرها وبالتالي يجب أن يأخذها طالبها من مصدرها ذاك.
على المستوى الشخصي، أتفاءل كثيراً بهذا القرار الحكيم من قبل خادم الحرمين الشريفين، لأنه على أقل تقدير نبّه الناس في مجتمعنا إلى حساسية الفتوى، وأنها في كثير من الأمور تمثل خطراً اجتماعياً حين يتم التساهل بشأنها، فليس كل من هب ودب يستطيع التصدي للفتوى، وخصوصاً ما يربط بأمر المجتمع، فمن غير المناسب أن يسعى عامة الناس إلى شخص ما بعينه لطلب الفتوى منه لمجرد أنه طالب علم أو قارئ أو إمام مسجد، ولا حتى لمجرد أنه شيخ ذو صيت، فبعض المشايخ هداهم الله عرف عنهم تشددهم في الفتوى إلى حد لا يمكن احتماله!
وهنا يفترض إدراك ضرورة الأخذ بمبدأ التيسير في كل أمر، وربط العلم بالدين، من خلال الاستعانة بعلماء العلوم الطبيعية إذا ما كان الأمر يخص فتاوى العلم والطب، وأظن أن مسألة التواصل مع الجهة الرسمية التي يمكن أن تؤخذ عنها الفتوى -وتمثلها هيئة كبار العلماء- أمر متاح، فقد أزالت وسائل الاتصال الحديثة اليوم كل العوائق أمام التواصل الاجتماعي في أي مجال، وأمر الفتوى الآن بيد هيئة كبار العلماء، ومن الأهمية بمكان أن تكون الفتوى مرهونة بجهة يفترض أن تكون صمام أمان للمجتمع، فعدم ضبط الفتاوى التي تمثل خطورة على المجتمع -كما حصل في سنوات سابقة- يجب أن ينتهي الآن؛ لأن الآراء المتشددة الداعية إلى زعزعة الأمن الاجتماعي والوطني، كانت مغلفة زيفاً بغلاف الدين والتدين، لكنها في الوقت نفسه كانت عاملاً مؤثراً في المجتمع، واستُغلت النصوص الدينية لبثّ الفرقة والتفتت وانعدام الثقة بين الناس، وهنا يأتي دور الهـيئة في التضييق على التطرف والتشدد والانغلاق، بالأخذ مـن معين الدين الإسلامي المفعم بالتسامح والتيسير.