في البداية يتجاهلونك ثم يسخرون منك ثم يحاربونك ثم تفوز. هذا ما قاله (غاندي) المناضل الهندي الشهير. شيء من هذا القبيل حصل لكثيرين، ومنهم الدكتور محمد أحمد الرشيد وزير التربية والتعليم السعودي السابق، الذي توفي مؤخراً بشكل مفاجئ رحمه الله.

رجل تربوي، تخصصاً وممارسةً، وإن لم يره البعض إدارياً ناجحاً، إلا أنه ترجّل من منصبه كوزير للتربية والتعليم بعد حوالي 10 سنوات، كان خلالها شاغل الدنيا والناس، من خلال الفكر التربوي الذي اتّبعه، مع قناعتي أنه لم يوفق بفريق عمل متميز يشبهه إلا أن القرارات التي أقرها خلال فترتي توليه لوزارة (المعارف) أولاً ثم توليه لها بعد دمجها وتسميتها بوزارة التربية والتعليم، ودمج رئاسة تعليم البنات بها بعد أن كانت منفصلة عنها، وغالباً ما كان يتولاها رجال الدين أو على الأقل المحسوبون على التيار الديني المحلي.

في عهد الوزير الرشيد حصلت تحولات تربوية كبرى، الكثير منها إيجابي، والقليل منها سلبي صنعتها ظروف معينة، وربما كان طول فترة بقائه وزيراً سبباً في تكرس السلبيات، إلا أن هذا الوزير رغم كل الجهود التي بذلها والإيجابيات التي تمت في عهده كان-مع شديد الأسف- ينظر إليه اجتماعياً بشكل عام أنه الهادم لا الباني، وهذه النظرة كرستها قوى فكرية معينة يرى أصحابها أن هذا الوزير جاء ليسلبهم كل الامتيازات التربوية والاجتماعية والدينية، ولذلك عاش كل تلك الفترة-رحمه الله- محارَباً، وكثيراً ما كان يحاول إثبات عكس الصورة التي رسمتها تلك القوى عنه وأشاعت عنه صورة نمطية، لم تمنع حتى المعلمين من انتقاده صباح مساء بشيء من التجريح، وعلى الرغم من أن كل ما تشهده وزارة التربية والتعليم اليوم من إيجابيات وضعها ذلك الوزير بدعم وإرادة سياسية عليا، إلا أنه في الأخير ترجل عن منصبه وبقي لعدة سنوات صامتاً، ثم تحدث فقال ما قال حتى قبيل وفاته بساعات!

قضى الوزير الراحل عدة سنوات في "التربية" يؤكد على صورته الحقيقية (الإنسان السعودي العربي المسلم) ابن المجتمع المحافظ، والمسؤول في عدة مراكز ومناصب تربوية، والأهم من هذا وذاك تربيته الدينية وحفظه للقرآن الكريم!

كان يركز في أحاديثه وتصريحاته على عبارات معينة باتت مثل أيقونة للوزارة التي تولاها محاولاً تكريس "التربية" كمفهوم قبل التعليم، ومحاولاً أيضاً التعبير عن "التغيير" كسنة كونية لا بد منها، ومقدماً الإبداع على التلقين، ومن حسناته التركيز على تطوير المعلم وأدواته، من خلال التدريب، ومحاولته تطوير المناهج حتى أصبح الفارق مشهوداً في المعلم قطباً للرحى في العملية التربوية والتعليمية، لولا أن المجتمع بكل فئاته آنذاك لم يكن مؤهلاً لتقبل التغيير من جهة، ومن جهة أخرى مارست قوى الظلام أنشطتها الخاصة محاولة إبقاء التعليم سلاحاً في يدها إلى الأبد.

وبعد الحادي عشر من سبتمبر، تغيرت أمور كثيرة، وتكشف العديد من الأوراق التي باتت تتساقط كتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف، فأخذت قضية التربية تتعزز بعد دمج تعليم البنين والبنات تحت مظلة وزارة واحدة، وها هم ملايين الطلاب والطالبات وأولياء أمورهن ينسون ما كان يحصل من "تهويل" بخصوص الدمج لأنه لم يكن حقيقياً!

هذا الرجل الرشيد يشبه في سيرته العملية سيرة سلفه الوزير الراحل غازي القصيبي، فكلاهما شجرة مثمرة قذفها المتطرفون بالحجارة فأعاقوا كثيراً من جوانب التنمية التي يمكن أن تتحقق في حينها، وبالتالي يكون المجتمع قد تجاوز مرحلة مهمة إلى مرحلة أهم، وهذا دليل على تقدم الفكر القيادي لمثل هذين الرجلين اللذين يترحم عليهما اليوم أولئك الذين حاربوهما حد الإيذاء، وربما هي "قيمنا" الخاصة التي لا نشعر فيها بحقيقة القيمة حتى نفتقدها!

لقد كانت "التربية" في عهد الوزير الراحل محمد الرشيد منبراً ثقافياً وإعلامياً من خلال إحياء صدور مجلة "المعرفة" التي كان لها دور بارز آنذاك، يحرص على قراءتها من هم داخل الحقل التربوي ومن هم خارجه، كما وجدت في عهده مفاهيم لم تكن من قبل كالفكر والموهبة، ومصادر التعلّم، والتربية الوطنية، وإدماج التربية الخاصة في التربية العامة، بل إن وزارة التربية آنذاك من أهم الوزارات التي حققت إلى حد كبير التعاملات الإلكترونية، بالإضافة إلى تكريس مفهوم "الإعلام التربوي" الذي لم يكن محققاً من قبل، وهو الموضوع الذي سوف أتناوله بالنقد المفصل في المقال القادم على اعتبار أنه مرحلة انتهت، ولكن لم يُرد لها أن تنتهي في الوقت ذاته!