تعد مشكلة "الأراضي البيضاء" داخل النطاق العمراني في مختلف مدن المملكة من أبرز التحديات والمعوقات التي تواجه تحقيق أهداف خطط التنمية في العديد من المجالات والتي من أهمها الإسكان والخدمات البلدية والمجالات الاقتصادية، فقد تضمنت خطة التنمية التاسعة للدولة تنامي ظاهرة التوسع الأفقي داخل المدن، نتيجة للعديد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والإدارية، في مقدمتها ارتفاع أسعار الأراضي القريبة من وسط المدينة، الأمر الذي أدى إلى التوسع نحو الأطراف بالإضافة إلى انخفاض الاستغلال الكفء للمساحات المسطحة داخل النطاق العمراني.
كما تضمنت خطة التنمية أيضاً تزايد الطلب على الوحدات السكنية، حيث يتركز نحو (70%) من إجمالي الطلب في المراكز الحضرية الكبرى، وهذا الأمر يتطلب توفير الأراضي السكنية المجهزة بالبنية التحتية والخدمات العامة عالية الكفاءة والاستدامة.
وعلى هذا الأساس، تركزت أهداف الخطة لمعالجة التحديات السابقة حول ضرورة التطبيق الصارم لنظامي النطاق العمراني واستخدامات الأراضي، ووضع حلول جذرية لظاهرة الأراضي البيضاء، والاستفادة منها داخل النطاق العمراني.
وبالرغم من أن خطة التنمية التاسعة شارفت على الانتهاء، إلا أنه يلاحظ انتشار الأراضي البيضاء داخل المدن الرئيسية بشكل لافت، حيث لا تخلو دائرة قطرها (3) كلم2 من هذه الأراضي، وما زال الطلب على الوحدات السكنية في تزايد مستمر في ظل ارتفاع أسعار المساكن والأراضي، وهذا يعني أن أهداف خطط التنمية لم يتم تحقيقها بالشكل المطلوب.
لعلي لا أبالغ في إصدار الحكم على مدى تحقيق أهداف التنمية في مجال الحد من الأراضي البيضاء، فللأسف الشديد لا توجد معلومات أو بيانات رسمية متاحة تتعلق بحصر هذه الأراضي وتحديد ملكيتها (حكومية أو خاصة) وأسباب عدم استغلالها، بالإضافة إلى عدم احتساب تكاليف الخدمات الحكومية المقدمة لها.
هذا بالإضافة إلى أنه لا توجد جهة حكومية محددة تكون مسؤولة عن الحد من الأراضي البيضاء، فهل المسؤول هي وزارة الشؤون البلدية والقروية بحكم أنها مسؤولة عن إعداد الاستراتيجيات والخطط المرتبطة بالتنمية العمرانية الشاملة، ومسؤولة عن رفع كفاءة وفعالية استخدام الأراضي واستغلال مواردها الطبيعية؟ أم أن المسؤولية تقع على عاتق الأمانات والبلديات، والتي من ضمن اختصاصاتها تسريع آلية التطور العمراني بكل ما يسهم في خدمة المواطن ومواكبة احتياجاته؟ أم أن المسؤولة هي وزارة الإسكان والتي من مهامها توفير السكن الملائم للمواطنين؟.
بين الفينة والأخرى، نجد تصريحات إعلامية من الجهات الحكومية السابقة حول دور كل جهة في مجال الحد من الأراضي البيضاء، حتى شاعت المسؤولية بين هذه الجهات، فلا توجد معلومات ولا حتى إحصائيات رسمية لهذه المشكلة، متذرعين بوجود فراغ في التشريعات والقوانين بهذا الخصوص، هذا بالإضافة إلى أن الأراضي البيضاء هي من الأملاك الخاصة للمواطنين، مع أن من ضمن هذه الأراضي أملاكاً حكومية لم يتم استغلالها!.
وبناءً على ما سبق، ثار جدل واسع في المجتمع حول فرض رسوم حكومية أو الزكاة الشرعية على الأراضي البيضاء بهدف تشجيع وتحفيز ملاكها لبيعها، وبالتالي زيادة المعروض من الأراضي الأمر الذي يؤدي إلى مواجهة الطلب المتزايد وانخفاض الأسعار.
وقد حسم هذا الجدل بتشكيل لجنة بمجلس الشورى لدراسة مشروع نظام جباية الزكاة، وحسب تصريح أحد أعضاء هذه اللجنة، فإن هذا المشروع يضم الأراضي وجميع العقارات المملوكة للشركات والأفراد بعدما كان يقتصر على الأمور التجارية فقط.
وفي اعتقاد البعض أن النظام الجديد لجباية الزكاة هو العلاج السحري للقضاء أو الحد من الأراضي البيضاء، وبالرغم من أهمية النظام في هذا المجال إلا أنه في رأيي هو أحد الحلول الجزئية للمشكلة، وذلك لعدة أسباب من أهمها ما يلي:
• المعالجة الفقهية لزكاة الأراضي تتمثل في أن الزكاة تفرض عليها إذا كانت من عروض التجارة، فإذا حال عليها الحول فإنه ينظر في ثمنها كم تساوي عند تمام الحول ويخرج ربع العشر من قيمتها التي تساويها في وقت تمام الحول، وهذا هو المعمول به في النظام الحالي بالنسبة للشركات والمؤسسات، أما بالنسبة للأفراد فيخرجها بمعرفته الشخصية، وبالتالي فإن شرط أن تكون الأرض من عروض التجارة هو الأساس في الزكاة الشرعية، وإلا فإنها لا تخضع للزكاة شرعاً، وكثير من الأراضي البيضاء ليست من عروض التجارة.
• تعد الأراضي في قائمة المركز المالي للشركات من الأصول الثابتة التي تخصم من الوعاء الزكوي في النظام الحالي إذا كانت مسجلة باسم الشركة، فإذا كانت الأراضي مسجلة باسم الشركاء فيمكن تسجيلها باسم الشركة للتهرب من الزكاة.
• بعض رجال الأعمال يرون أن الزكاة التي يدفعونها إلى مصلحة الزكاة والدخل قليلة نسبياً، والبعض الآخر لا يثق في المصلحة بالرغم من إيداعها في حسابات الضمان الاجتماعي لدفعها للمستحقين، لذا فهم في الغالب يدفعونها بمعرفتهم الشخصية، وأعتقد أن أصحاب الأراضي البيضاء منهم لن يؤثر عليه تطبيق النظام الجديد.
• هناك أساليب وطرق كثيرة لتضليل القوائم المالية وبالتالي التهرب من دفع الزكاة بالتواطؤ مع المحاسب القانوني للشركة أو المؤسسة.
• هناك أراضٍ بيضاء مملوكة لجهات حكومية متعددة وليس لها حصر ولا تفرض عليها زكاة.
ولهذا فإن النظام الجديد لجباية الزكاة ربما يكون تأثيره محدودا في مجال القضاء على الأراضي البيضاء، وبالتالي فإن الأمر يحتاج إلى إيجاد آليات حديثة وغير تقليدية، وإلى أحكام فقهية جديدة، خاصةً أن مفهوم "الإنفاق" قد سقط سهواً من قاموس بعض الفقهاء للأسف الشديد، فالإنفاق أعم وأشمل من الزكاة المعروفة حالياً والتي تشكل جزءا بسيطا منه، فمفهوم الإنفاق في القرآن يتعلق بالصرف على مشاريع الدولة الإنمائية والخدمية والبنية التحتية، وليس هناك مبرر للبطء في تنفيذ البدائل والحلول المتاحة للحد من الأراضي البيضاء سواء من خلال فرض الرسوم أو الضرائب أو نزع الملكيات.