لم يلقِ "والتر وايت" معلم الكيمياء بالاً لعدم تجاوب طلابه معه في أول حصة بالعام الدراسي، فعالم الكيمياء العجائبي لم يكن ليثير طلاب إحدى ثانويات مدينة "ألباكركي" وسط ولاية "نيومكسكيو" جنوب أميركا، كما هي الحال منذ أن انضم هذا الرجل المسالم إلى سلك التعليم قبل سنوات طويلة، تاركاً وراءه عالماً كبيراً من الفرص في قطاع الأعمال.

لكن "والتر" ودون سابق إنذار يصاب بنوبة سعالٍ شديدة، ينقل على إثرها إلى المستشفى، ليفاجأ أنه مصاب بسرطان الرئة، هكذا بعد أن أفنى زهرة شبابه في التعليم، وتنازل عن الكثير؛ يصاب بمرضٍ عضال سوف يقضي عليه خلال أشهر قليلة، وهو وإن كان يعيش في منزلٍ يمتلكه؛ إلا أنه لم يسدد رهنه حتى الآن، كما أنه يعول ابنه البكر المصاب بإعاقة دائمة، بالإضافة إلى انتظاره مع زوجته مولودا خلال أشهر قليلة، وياللهول ها هي التكلفة الباهظة للعلاج تضاف إلى قائمة هموم "والتر".

لم يخبر معلم الكيمياء عائلته عن إصابته بالسرطان في بداية الأمر، فلقد كان يعيش بين هاجس الإنكار وبين همّ مستقبل العائلة بعد وفاته، فراتب التقاعد لن يكفيهم أي شيء، وعمله المسائي المرهق في مغسلة السيارات لن يضيف أي شيء. أظلمت الدنيا في وجهه، ولم يعد يرى أي فائدة من إضاعة المال في علاج نفسه، عوضاً عن حفظ المال لعائلته من بعده، ولكنه وخلال مرافقته عديله "زوج أخت زوجته" في إحدى مهمات القبض على مروجي المخدرات؛ لمعت في ذهنة فكرة "جهنمية" غير متوقعة، وذلك حينما شاهد أحد طلابه القدامي يفرّ هاربا من العدالة.

في البداية لم يوافق "جيسي بنكمان" الطالب الفاشل على أن يعمل في صناعة المخدرات مع معلمه السابق، لكنه عندما أدرك كم من المال سوف يجنيه مع السيد "وايت"؛ قفز على الفور إلى المركب، وكان أن تولى معلم الكيمياء تحويل أدوية احتقان الأنف إلى مخدر "الميث" أو "الميثأمفيتامين Methamphetamine" ، بينما تولى "جيسي" عملية التوزيع والبيع، وبدأت رحلة لا تصدق من الأحداث والمآسي. ورغم أن الاثنين استطاعا الخروج من بعض المآزق العارضة، إلا أن زيادة الكمية التي كان "يطبخها" السيد "وايت" كما كان يحب أن يسمي عملية التصنيع؛ استلزمت عليهما التعامل مع رجال العصابات، بسبب جهلهما طريقة وأسلوب بيع وتوزيع المخدرات على نطاقٍ واسع، لتزداد الأحداث سخونة وتتطور مجريات القصة بشكل دراماتيكي.

ما سبق هي الحبكة الأساسية للمسلسل الأميركي الدرامي "Breaking Bad" أو "التحوّل السيئ"، وهو المسلسل الذي لم تذع منه في الموسم الأول سوى ثماني حلقات عام 2008م، لكن النجاح الساحق للمسلسل جعله يستمر لمدة خمسة مواسم متتالية، بمجموع 62 حلقة! جميعها متخمة بالأحداث المتلاحقة، تخطف الألباب وتبقي المتابعين على أحر من الجمر لمشاهدة الحلقة التالية. لقد تحوّلت قصة المسلسل إلى ظاهرة كونية خلال خمس سنوات فقط، حتى إن الحلقة الأخيرة التي عرضت سبتمبر الماضي شاهدها أكثر من عشرة ملايين مشاهد! وهو رقم لم تصل إليه المسلسلات الدرامية منذ زمن طويل.

هناك العديد من الأسباب وراء هذا النجاح الكاسح لهذه القصة، بالطبع بعد إغفال الجهد الكبير في الكتابة والتوثيق، وهو ما سوف أفرد له مقالاً كاملاً للحديث عن كواليس وآليات كتابة مثل هذا المسلسل المختلف، ناهيك عن الفريق المميز من الممثلين، الذين لم يكونوا من نجوم الصف الأول، ولم يكونوا من ذوي الطلات الجميلة، مما جعل المشاهد العادي يحس بقرب المسلسل من أحداث يومه الطبيعي، لكن أهم سبب يكاد يكون الجاذب الأساسي للمشاه هو التناول الصادق والقريب من الواقع لرحلة إنسان ترك المسالمة والوداعة وراء ظهره، كما هي حال الكثيرين من عامة الناس، وأضحى يزداد شراسة وعنفاً يوماً بعد يوم. بالطبع هذا التحوّل يتطور بالتدرج يوماً بعد يوم، رغم وجود نوعٍ من التعاطف معه، ولكن بعد أن يكون المشاهد قد بلع طعم ما يطلق عليه "المفارقة الدرامية Dramatic Irony" في المسلسل، إذ إن بطل القصة يعيش حياتين متناقضتين، فهو رب أسرة يهتم بأدق تفاصيل عائلته، وهو في العالم الآخر مصنّع وتاجر مخدرات، وبالطبع فإن عائلته وبالذات زوجته لا تعرف ذلك! وهو ما يجعل المشاهد أكثر التصاقاً بالشاشة لمعرفة متى سوف يكتشف بالجرم المشهود.. متى سوف يخطئ في شيء بسيط ويهدم كل شيء.. أو السؤال الأكثر إثارة: هل هناك أحدٌ ما يتبعه؟ وهي نفس "الثيمة" الفنية التي لا تزال بعض الأفلام الشهيرة تقتات عليها منذ عقود طويلة، كما في سلسلة "سوبرمان" أو "باتمان"، ولا عجب أن تحقق مثل هذه "الثيمات" النجاح المتواصل، فهي ما يجذب الجمهور ويحقق بهجته اللحظية.

غير أن مبتكر المسلسل، وهو الكاتب الأميركي "فينس غيليغان Vince Gilligan" أضاف بعدا تشويقياً آخر للقصة، حينما جعل أحد أهم أقارب البطل يعمل مفتشا في وكالة مكافحة المخدرات DEA، وهو زوج أخت زوجته! وبالتالي رفع سقف المفارقة الدرامية، إلى مستوى خطيرٍ من التشويق والإثارة! شيء آخر ساعد على نجاح القصة، وهو اعتمادها على الحقائق المجردة لعلم الكيمياء، وقدرتها العجيبة على فعل أي شيء دون أن ندرك ذلك، فمنذ المشهد الأول استعرض "والتر" مهارته الكيميائية من خلال تغير ألوان المواد واللهب فقط بمجرد تغيير بعض العناصر، وهي بالمناسبة متوافرة بشكل لا يصدق في حياتنا اليومية، فضلاً عن عرض طريقة صناعة المخدرات من الأدوية بشكل عام دون الدخول في التفاصيل، أو حتى تشغيل كهرباء السيارة بعد تعطلها، فقط عندما صنع معلم الكيمياء بطارية كهربائية اعتماداً على المواد المتوافرة معه، وهو في وسط صحراء قاحلة! وغيرها من المشاهد التي أجبرت الكثيرين على البحث في الإنترنت عن مدى صدقية هذه التفاعلات من عدمها، وثبت أن جميعها صحيح، لأن مبتكر القصة اعتمد على أستاذة للكيمياء العضوية في جامعة "أوكلاهوما" هي الدكتورة "دونا نليسون" في مراجعة النص والأحداث من الناحية العلمية.

يكاد المسلسل يختصر قصته في أن طمع الإنسان ليس له حدود، حتى وإن انطلق من أهداف خيّرة، إلا أن النفس البشرية سوف تعمل على جمع مزيدٍ من المال والنفوذ، مهما كلفها الأمر من خسائر وأرواح، وللأسف فإنها قد تخسر "كل شيء" مقابل "شيء"؛ لا ينفع بلا عائلة، أو بلا حياة نحياها.