قبل أسبوعين تقريبا كنت أراقب أحد المصابين بالإعاقة البصرية في مطعم أوروبي، وأتابع براعته في التعاطي مع محتويات الطاولة، والاستجابة لمن حوله من أصدقاء، واللعب مع الكلب في نفس الوقت، بمهارة فائقة بالتنقل، ومنح كل جزء حوله ما يستحق من الاهتمام والوقت.. كنت أتلصص على المشهد وبصحبتي حزمة من الأسئلة، جالت في فضاء جمجمتي، نثرت الكثير من الاستفهامات، ثم تلاشت بعد مغادرتي للمطعم!
لم أكن أعلم أنني على مسافة أسبوعين من محطة معايشة هذه التجربة، حيث فعالية "عشاء في الظلام"، وهي مبادرة لتجربة العشاء في جو مظلم تماما، يكون فيه الاعتماد كليا على أصحاب الإعاقة البصرية في إدارة كل شؤون المناسبة، والتي تشرح لنا بإيجاز أن البصيرة هي البصر في الحياة.. الفاصل كان ستارة، بعدها سلمنا القيادة للمبدع علي، وهو أحد الشباب المتألقين الذين يعانون من الإعاقة البصرية، والذي سار بنا باحترافية في دهاليز الظلام، حتى أوصلنا للطاولة المحددة، وشرح لنا محتوياتها، وقام بعدها بخدمتنا بشكل مميز ودقيق، وتحدثنا معا طويلا حول الطعام والرياضة والأعمال وأشياء أخرى، وكان مرشدنا كلما أردنا الاهتداء لأي شيء، والناصح لنا كلما احتجنا لذلك.. بصدره الرحب وروحه المرحة.
مثل هذه التجارب تخبرنا بدقة أن القوى الروحية والذاتية تختلف من شخص لآخر، وأن الجميع قادرون على العطاء وبناء مجتمع تنموي متعدد، يعتمد على جميع أفراده بلا استثناء متى ما منحوا الفرصة لذلك. والأهم من ذلك أنها تكسر قاعدة الدراسة التي تقول إن العينين هما أول وسيلة نستخدمها للتفاعل مع الطعام، ويأتي من بعدهما اللِسان، حيث إن اللسان تكفل بذلك وحيدا، بعد أن حجم الظلام المكان.
الأرقام العالمية تقول إن عدد من يعانون من الإعاقة البصرية يقارب 40 مليون إنسان حول العالم.. ومعظمهم بحاجة للدعم، ومن أجل هذا وجدت الفعالية والمبادرة، لذلك لا تتردوا بأن تكونوا جزءا منها، وابحثوا عن تفاصيلها عبر "هاشتاق": #عشاءـ في ـ الظلام. والسلام.