اللاحكمية تعني أن على الإنسان أن يتجرد من جميع الثوابت والأحكام المسبقة عند محاولته الوصول إلى الحقيقة، ولكن هذه اللاحكمية قد تتلاشى حين يصبح الباحث عن الحقيقة ضحية تحاول إثبات شكل من الأشكال المطلقة للقيم أو الحقائق التي يعتقدها.

لإدارك جوهر اللاحكمية كجوهر مجرد بسيط بعيدا عن التفسيرات المعقدة، نجد أنها في حالة تنافر كبيرة مع مفاهيم مثل المقدس والمحرم والمنتهك والمشرف والحقير والقديس والبطل والدنيء. اللاحكمية أقرب لمطالب مثل رفض الإعدام واللاعنف وحرية التعبير؛ لأنها تسائل فكرة الجريمة والعقاب والفعل ونتيجته.

اللاحكمية هي في حالة تنافر مع الانتماء والهوية والولاء. إنها تتعلق بتجنب الأحكام على البشر قبل الأحكام على الأفكار والأحداث، تجريد الإنسان من كل ما يتجاوز جوهره الإنساني الحقيقي، تجريده من صفاته الجيدة والسيئة، فالإنسان هو الموضوع هنا.

عدم الحكم على الأشياء والناس نجده فطرة عند الأطفال بالذات، فكل طفل هو لا حكمي، لكنه يبدأ بخسارة لا حكميته مع اكتسابه البرمجة والعادات وتكون خسارته لها هنا سريعة وكبيرة، حيث نجد أن المراهق عادة ما يكون متطرفا وميالا لإصدار الأحكام على الناس، ثم قد يعود إلى اكتساب شيء من اللاحكمية مع مروره بتجارب تثبت له خطأ بعض أحكامه السابقة، وقد يتيح له الاطلاع على المزيد من المعرفة الموضوعية أن يراجع أحكامه، حيث تصبح اللاحكمية في حيز ضيق جدا من طبعه.

الإنسان اللاحكمي إنسان مريح لأغلب الناس، يحب الناس التعامل معه لأريحيته. والناس تدرك أن هذا الإنسان مريح دون أن تبحث في سر هذه الأريحية، ودون أن تهتم لمعرفة أن ما يقف وراء هذه الأريحية هي لا حكميته. ونحن نرتاح للإنسان الذي يبدي لنا قدرا من اللاحكمية؛ لأننا ننفر من الأحكام بطبيعتنا، لا نحب أن نكون بجوار إنسان يحكم علينا سواء تحدث عنا من وراء ظهورنا، أو اكتفى بحكمه علينا لنفسه.

الكثير من الأحكام على الأشخاص هي أحكام مضللة؛ ففي حين أننا نحاول تصنيف الناس لتسهيل التعامل معهم، إلا أن التصنيف مهما كان دقيقا قد يأتي بنتيجة عكسية لهدفنا من التصنيف، مرد ذلك هو الطبيعة الفريدة للتجربة الإنسانية فكل إنسان حالة خاصة. لا توجد تجربتان بشريتان متطابقتان.

إن بعض الأشخاص يحتفظ بطبع لا حكمي، وقد تقف وراء ذلك أسباب كثيرة، منها ما هو عائد إلى التربية، ومنها ما هو عائد إلى الظروف، ومنا ما هو عائد إلى تجارب خاصة جدا، ومنها ما قد يعود إلى الفسيولوجيا أو الجينات، ولهذا يصبح إصدار الأحكام عادة يستخدمها الإنسان دون وعي، أو كحالة من حالات الدفاع النفسي التي تدفعه إلى إصدار الأحكام على الآخرين.