ربما كان كتاب الزميل عبدالعزيز الخضر: "السعودية سيرة دولة ومجتمع"، من أبرز من رصد لظاهرة الصحوة التي مرت على مجتمعنا خلال العقود الثلاثة الماضية، وكتبت وقتها نقدا صريحا للكتاب، وطالبت في مقالتي الشرعيين ممن انخرطوا في الصحوة، أن يكتبوا تأريخها برؤيتهم، كي يبرزوا ما قدموه للمجتمع والأمة.

وعلى طريقة "إن طاح الجمل..كثرت السكاكين"، وبتغير المزاج حيالها، ودخولنا مرحلة الحرب على الإرهاب بعد 11 سبتمبر؛ انفلت الكتبة من كل حدب وصوب، يثخنون الطعن في الصحوة، مستثمرين المنفلتين عنها بشكل كبير، وقالوا فيها – ولا يزالون - ما لم يقله مالك في الخمر، ويربطونها – عمدا أو جهلا - بالإرهاب والتطرف، بل ذهب البعض في الآن الراهن، لوصم من أرادوا تصفية بعض حساباتهم برمي خصومهم بتهمة "الأخونة"، بعد أن أضحت سبة ومذمة، مما جعل الزميل محمد الهويمل يكتب بأن: "كثيرا من اللبراليين في الساحة، هم قوميون وشيوعيون سابقون، هزمتهم الصحوة، وعادوا للانتقام لشيوعيتهم وقوميتهم منها بغطاء محاربة الإخوان".

في مقابل هؤلاء، ثمة باحثون جادون، يتوافرون على أدوات العلمية والموضوعية يرصدون بدورهم الصحوة، من خلال تجاربهم أيضا، ولعل ناقدنا الكبير د. عبدالله الغذامي أحد هؤلاء، وهو يباشر في هذه الأيام توريقات له عنها في الملحق المتألق "الجزيرة الثقافية"، ومفكرنا الكبير يكتب من وحي تجربته الشخصية، ويضع تلك المرحلة في سياقات النسق الثقافي.

يسائلني كثير من الفضلاء الذين أغشى مجالسهم عن هذه الهجمة الاعلامية على كل سمات التدين -لم تقتصر على صحوة أو إخوان فقط- ولماذا التجديف القاسي حيال من كانوا رموزا في المجتمع، وأبث لهم رجاءاتي في عدم التضجر والضيق، لأن هذه فورة ستأخذ مداها، ولا تلبث أن تتلاشى، لتحل محلها القراءة النقدية العاقلة.

الصحوة الإسلامية تجربة بشرية، يعتورها الخطأ والقصور، وإن اتسمت بالإسلامية والتصقت بالإسلام، إلا أن الممارسة تظل بشرية، لذلك لا أرى أية غضاضة بأن توضع تحت طاولة النقد العلمي، بل ربما آن أوان نقدها بشكل صريح وحقيقي من قبل محايدين وفضلاء لتستفيد الأجيال الآتية من بعدنا من تلكم الأخطاء التي ارتكبت، وأعجبتني الروح التي تناول بها د.عبدالكريم بكار ظاهرة الصحوة، وهو يقول: "الصحوة الإسلامية جعلت حواف العلاقات بيننا وبين من يخالفنا حادة، وصرنا أكثر حدة ونزقاً، وهذا من إفرازاتها السلبية".

ومهما كان الحديث والنقد فثمة ما يحسب لتلك الصحوة التي أعادت كثيرا من الشباب إلى الاهتمام الجاد بالفكر وقضايا الأمة والانخراط في هموم الوطن والمجتمع، وجملة إيجابيات، لا ولن يغفلها التاريخ لهم، وبما قال الصديق الباحث د.سعد بن مطر العتيبي :"الصحوة نقلة في وعي الأمة، وتوعية من لوثات المحتل المستعمر. هي سلم ارتقاء نحو المجد الأصيل، وعقبة في طريق التبعية للأجنبي، لذا نقموا منها".

ها أنا أكرر دعوتي للباحثين الفضلاء، بالتصدي لهذا العمل عبر مراكزهم البحثية، والصحوة تزخر بالباحثين الجادين، ليكتبوا -بموضوعية أيضا بدورهم- عن إيجابيات ما قدمت الصحوة للمجتمع والوطن والأمة، وتلك السلبيات التي انزلقت فيها، ورصد تلك المرحلة بأدوات البحث العلمي الجاد، الذي لا يحابي ولا يجامل.

وكنت أتابع في الفترة الماضية، الذين يكتبون عن الصحوة، فألفيت أغلبهم ممن تربى في محاضنها، وانفلت عنها لأسباب عديدة، مما يجعلني أذكر بأن شيم الأخلاق والتربية تتبدى اليوم، وقد تغيرت مراكز القوى المجتمعية، وهؤلاء الرهط الذين ينفلتون عن حظيرة الصحوة بمتواليات هندسية؛ ثمة من أفحش منهم تجاه مربيه وأساتذته وأشياخه، وهم الذين التقطوه من أرصفة الشوارع وهو يلعب "البلوت"، أو من مدرجات الكرة وقد اعتمر شال فريقه، وكان فوز من يشجع أقصى طموحه، أو من ساحات التفحيط بهيئته المزرية، أو من تلك الأسواق ولا همّ له سوى مطاردة الفتيات، وجعلوا منه باحثا ومثقفا عبر تربية طويلة، قدمه فيها هؤلاء المربون على أبنائهم وأهاليهم، وبذلوا لهم غالي الأوقات وأنفسها، بل وربما دفعوا من جيوبهم عليه، ليصل إلى ما وصل إليه من فكر، ويقوم اليوم بطعن أولئكم الأشياخ والمربين بلا أية مروءة ولا ضمير، ووفر قلمه ومنبره ومركزه للمز والطعن بمن كان لهم الفضل في ما وصل إليه.

دعوتي هنا ليست لتكميم الأفواه، والإعراض عن النقد العلمي، وتصويب الأخطاء ، بل هي دعوة لأخلاق الفرسان، إن دال الزمان على من كانوا يوما أشياخا لدعوة؛ انسلك فيها هؤلاء الجامحون، وجدفوا فيها اليوم فجورا وخصومة..

لربما هذه الدعوة مني تذكر من نسي، فالأيام دول.