ولكي نصل إلى ما يشبه الفهم في: أين ذهبت تلك النسخة العربية الضائعة من مانديلا تعالوا أولا إلى هذه المقاربات التي قد تشرح بعض طبائع الاستبداد العربي وبعض أفعاله ومفاهيمه مع مكارم الأخلاق، وعلى رأسها المساواة والحرية.

أولا: تقول الأرقام إن هذا الرمز التاريخي الذي رحل من "أيقونة" العصر، إلى رجل لكل العصور، يستأثر بمدن العالم الفسيح حتى ليلة وفاته، باسمه ما يقرب من 140 شارعا تبارت فيها شعوب الأرض ودولها ومجتمعاتها في اختيار ما يناسبه من شوارع مدنها الجوهرية.

وفي المقابل وفي النسخة العربية الضائعة من نيلسون مانديلا، لم أجد في الإحصاء والبحث إلا ثلاثة شوارع في الخريطة العربية من بين هذا الرقم المئوي الذي جعل من هذا الرمز أكثر الأسماء في العصر الحديث، بل في كل العصور في نشر اسم رمز أسطوري على لوحات الشوارع العامة. وحين تقرأ هذه المقاربة الرمزية أن حروف اللغة العربية لم ترفع اسم مانديلا على شوارعها سوى بأكثر من قليل من نصف بالمئة من رمز المساواة والحرية، فأنت لا تقرأ مجرد حروف مادية في ثلاثة شوارع، بل تقرأ منها نظرة أمة مكتملة إلى مشاركة المجمل الإنساني الكوني في هذه المفاهيم.

ثانيا: تقول الإحصاءات التي سمعتها بدهشة وشيء من مزيج الشك واليقين على قناة "فوكس" الإخبارية إن نيلسون مانديلا "كحروف اسم" قد استأثر في ساعة اليوم الأول من مماته بتكرار رقمي لنطق وكتابة الاسم على وسائل الإعلام المختلفة ووسائط التواصل الاجتماعي يصل إلى 600 مليون مرة، تكرارية لمجرد حروف الاسم. هي "فوكس نيوز" تقول إنه حصد التكرار الاسمي على نفس الوسائط ضعف ما حصدته حادثة "11 سبتمبر" عندما كانت في اليوم التالي مباشرة لها حدثا كونيا استثنائيا بكل المقاييس. تفوقت وفاة "نيلسون مانديلا" في تكرارها الرقمي على انهيار أشهر برجين وبالضعف. ومن هنا نبدأ السؤال في قراءة ما سبق عن: أين ذهبت النسخة الضائعة من "عربية" نيلسون مانديلا؟

نحن كأمة عربية، شاركنا في خضم الثورة الرقمية التكرارية ليلة وفاة نيلسون مانديلا، وكنا في بدء الخبر أمة تتصرف على فطرتها في تأبين راحل استثنائي وفي ذكر مناقبه. لكن اليوم التالي مباشرة يكشف لنا بوضوح أننا الأمة الوحيدة المنقسمة من بين أمم الدنيا، حين بدأت الحملة المضادة لـ"فرملة" هذه العواطف الجياشة، وفي زرع المسامير في طريق الشراكة مع الكوكب الإنساني، وهو يؤبن نجما ساطعا هوى إلى مصيره المحتوم.

طبائع الاستبداد المتجذرة في الشكل الجيني البيولوجي للإنسان العربي، هي التي جعلتنا ننقسم متناصفين: عشرات الفتاوى التي أشارت صراحة إلى خطورة الانسياق وراء مناضل القرن في الرحلة الطويلة إلى الحرية، مثلها من الفتاوى المخففة التي أباحت ذكر مناقبه وحذرت من الترحم عليه.

آلاف رسائل الإرباك التي تبعث رسائل الشك والريبة لـ"تفرمل" هذه الفطرة البريئة في التعاطف مع رحيل – رجل - لا يشبهه إلا – ولا يشبه إلا كلنا في المسيرة الطويلة إلى المساواة والحرية. وحتى لا يساء الفهم: أنا أتحدث عن منجزه الإنساني في الحياة الدنيا، أما في الآخرة "فأولئك يحكم الله بينهم يوم القيامة".

وعودا على السؤال: كيف ضـاعت نسخة مانديلا من القاموس العربي، فهنا بعض الشواهد: في مصر، حيث الثورة الكاذبة، يقبع في السجن رئيسان سابقان عطفا على المشكّل الجيني البيولوجي في دم العربي من روع الثأر والانتقام.

أما درس نيلسون مانديلا العظيم الأروع في التاريخ الإنساني؛ فهو يتمثل في دعوته ـ قبل عامين فقط ـ ثلاثة من سجانيه البيض إلى حفلة عيد ميلاده، لأنه مؤمن أن قيم الصفح والعفو تجمع الأمم من الانقسام والفرقة.

في جنوب أفريقيا تحول هذه القيم "المانديلية" المذهلة ذات السجان القديمة إلى مرشد سياحي يأخذ آلاف الزوار على قارب صغير إلى جزيرة "روبين" حيث سجن مانديلا سبعا وعشرين سنة. في عالمك العربي لا تعرف أين يسجن الزعيم الأسبق، ولا تستطيع معرفة مكان الرئيس السابق، وللمفارقة المذهلة: حتى السجانون ينتقمون من بعضهم البعض... حتى الفتوى تتضارب بين بعضها البعض.. حتى رسائل الإملاء تقتل غريزة الحب والفطرة.

في عالمنا العربي.. ملايين الطلاب الذين لا يقرؤون في مناهجهم إلا قيم الغزو والقتل والانتصار.. رغم أنها قيم للهزيمة الأخلاقية.