تعصف خلافات سياسية حادة بجنوب السودان، الدولة "الوليدة" التي انفصلت عن السودان قبل نحو عامين، ربما تؤدي إلى حرب أهلية لوح بها نائب الرئيس رياك مشارك قبل أن يقيله الرئيس سلفاكير ميارديت مساء الثلاثاء ومعه الكثير من رفاق دربه الطويل في العمل المسلح ضد الخرطوم.
ولم يشفع لنائبه رياك مشار وأعضاء حكومته من قادة الحركة الشعبية القدامى، تاريخهم الطويل في النضال من أجل الاستقلال. ويبدو أن الرئيس كير مصمم على إنفاذ برنامجه لمكافحة الفساد، وربما يكون قد وجد دعما خارجيا وداخليا كبيرا، وهو ما يفسر حجم الإقالات التي قام بها في ليلة واحدة، والتي شملت نائب الرئيس وكل الوزراء ونوابهم، كما أحال القيادي البارز ابن قبيلة الشلك باقان أموم إلى التحقيق، وشكل لجنة خاصة للتحقيق معه على خلفية انتقاده للرئيس وتحريضه على نظام الحكم.
أسباب الصراع
واشتعل الصراع السياسي بين الرئيس سلفاكير ميارديت ونائبه رياك مشار، بعدما اتخذ الرئيس قرارا بإقالة والي ولاية الوحدة النفطية تعبان دينق قاي، مما دفع بنائبه إلى التلويح بالحرب إذا لم يتراجع الرئيس عن قراره. ويخشى أن يتسبب تهديد مشار، وهو كبير أمراء الحرب الأهلية السابقة في السودان، في زعزعة الوضع أكثر في بلد غير مستقر وليس له منفذ بحري، ومفلس تماماً، ويعاني حروباً حدودية وحركات تمرد داخلية لا يستطيع تحمل كلفتها. واعتبر مشار أن الحكومة الحالية لم تعد قادرة على تلبية تطلعات الشعب، وأن سلفاكير فشل في انتهاز الفرصة التي مُنحت له للحكم منذ 2005 لبناء مؤسسات دولة قوية، ومعالجة فساد المسؤولين وبناء علاقات تعاون مع الخرطوم، وهذا هو الوقت المناسب لسلفاكير ليغادر.
فشل الحكومة
وتزامن ذلك مع رفض أحزاب المعارضة بوضوح للحركة الشعبية ورئيسها الحاكم. وطالب القيادي في الحزب الشيوعي بدولة جنوب السودان جوزيف ماديستو، الحزب الحاكم في جوبا بضرورة تشكيل حكومة خلاص وطني لإنقاذ البلاد من أزماتها المتلاحقة. وقال إن الحركة الشعبية تعتقد أن بإمكانها الخروج من هذه الأزمة، وهذا لن يتم إلا عبر تشكيل حكومة خلاص وطني بمشاركة القوى السياسية وببرنامج يُتوافق عليه.
وشدد ماديستو على أن أي تغيير يجب أن يشمل القيام بمصالحة حقيقية مع الجارة الشمالية، حتى يتدفق النفط مرة أخرى مما يساعد على تخفيف حدة الفقر التي يعيشها المواطن البسيط الذي لا يفهم المتاهات السياسية ونزاعات النخبة، وكل همه العيش كإنسان له استحقاقات في الطعام والعلاج والتعليم، معتبراً أن الخطوات التي قام بها سلفاكير أخيراً في محاربة الفساد، وتوقيفه للوزيرين دينق ألور وكوستي مانيبي، هو للتخلص من بعض الذين يشكلون له إزعاجاً سياسياً حتى لا ينازعونه القيادة أو يُضعِفون من قدرته على حسم الأمور بالجنوب.
في المقابل، يعتبر القيادي في حزب الموتمر الوطني الحاكم في السودان ربيع عبدالعاطي، أن إمساك سلفاكير بأوراق اللعبة السياسية في الجنوب قد يكون في مصلحة السودان، باعتبار أنه مع تنفيذ الاتفاقيات مع الخرطوم وإيقاف دعم المتمردين عليها الذين يجدون الدعم من بعض المتنفذين بحكومة الجنوب وجيشها الشعبي. غير أنه يرى أن من العسير على سلفاكير على المدى القريب، التخلص من منافسيه دون أن تكون هنالك مواجهات عنيفة قد تلقي بظلالها على علاقات البلدين، فمصلحة الخرطوم الحقيقية في حدوث استقرار في دولة الجنوب ووجود حكومة قوية تدرك أهمية التعاون مع الحكومة في الخرطوم لتنفيذ الاتفاقيات الموقعة كاملاً حتى تعود على المواطنين في البلدين نفطاً وأمناً وسلاماً.
تململ ونقد
ويعكس كل هذا حالة التململ في أروقة الحكم، فقد ارتفع صوت الأمين العام للحركة الشعبية التي تحكم البلاد، باقان أموم، بانتقادات لاذعة وصريحة في حالة نادرة، للرئيس سيلفا كير على خلفية إحالة وزيرين كبيرين، من أبناء دينكا نقوك التي تقطن منطقة أبيي المتنازع عليها مع شمال السودان، للتحقيق في شبهة اختلاس أموال حكومية. وتسود في البلاد حالة من الإحباط العام بسبب عدم التزام الحكومة بتعهداتها في مجال التنمية وتحقيق الاستقرار، حتى إن عددا من القوى السياسية في البلاد دعا إلى رحيل النظام الحاكم في البلاد لفشله في إدارة الدولة الوليدة، مؤكدا أن الحركة الشعبية لتحرير السودان، الحزب الحاكم، أعادت إنتاج ظاهرة القبلية في البلاد، وبالتالي فإن الحل الوحيد لمواجهة تلك الأزمات يتمثل في ترك الحزب الحاكم السلطة وانتخاب حكومة جديدة توفر للشعب الخدمات التنموية والأمنية.
أميركا والغرب
من ناحية أخرى، انتقدت مجموعة من الناشطين الأميركيين، ساعدت على انفصال جنوب السودان، الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، واستشراء الفساد الذي تمارسه الحكومة، والذي قد يؤدي إلى انهيار الاستقرار في البلاد. وسعت تلك المجموعة التي تسمى مجموعة "الخبراء" أو "القابلات"، والتي تتمتع بنفوذ لدى صناع السياسة الأميركيين، ولفترة طويلة لحماية جنوب السودان من انتقادات بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، لكنها فاجأت العالم قبل أيام قليلة برسالة مفتوحة موجهة إلى الرئيس سلفاكير، تقول فيها إنها لم تعد تستطيع السكوت عن العنف الذي تمارسه قوات الأمن ضد المدنيين، والصحفيين الذين ينتقدون الحكومة.
كما نشرت مجلة السياسة الخارجية الأميركية، قائمة بالدول الفاشلة على مستوى العالم لعام 2013، ووضعت جنوب السودان في المرتبة الرابعة، وهو ما أغضب المسؤولين في حكومة الجنوب، حيث وجدوا أن هذا التصنيف غير عادل وبه أخطاء، مؤكدين أن المعلومات التي يستند إليها لم تكن من مصادر حكومية رسمية، كما أوضح المسؤولون أنه لم يمض على تأسيس الدولة الوليدة سوى عامين ورغم ذلك نجحت في بناء مؤسسات تعزز سيادة القانون في العاصمة الاتحادية وسائر ولايات البلاد.
فقر مدقع
ووفقا لتقارير دولية، فإن جوبا تأتي في المرتبة الرابعة عشرة ضمن أكثر عواصم العالم ارتفاعا في تكاليف المعيشة والخدمات. ويأتي ذلك في الوقت الذي يعيش فيه غالبية المواطنين الجنوبيين في فقر مدقع ويعانون نقصا شديدا في المياه، مع افتقاد وجود مصادر آمنة لمياه الشرب النقية واستخدام العربات والصهاريج العمومية للمياه.
وتعاني دولة الجنوب من ارتفاع هائل في معدلات البطالة.. معظمهم من فئة الشباب، بينما تقدر العمالة الأجنبية بأكثر من 70% من سوق العمل ومعظمهم من دول شرق أفريقيا، وهو الأمر الذي يثير استياء كبيرا على الساحة الجنوبية، ولا سيما في ظل عدم وجود تشريعات تضمن للجنوبي حقه في الحصول على فرصة عمل وتحميه من التوغل الأجنبي في دولته.
انتكاسة النفط
الناشط السياسي سايمون دينق، قال لـ "الوطن" إن دولة الجنوب الوليدة تواجه العديد من المعوقات التي تعترض طريقها وتعرقل مسيرتها نحو النمو، سواء على المستوى الداخلي أو على مستوى علاقاتها مع شمال السودان. وأول هذه المعوقات هو العامل الاقتصادي، فالدولة ليس لديها موارد اقتصادية سوى النفط الذي يمثل 98% من إجمالي ميزانيتها، ويشكل المصدر الوحيد المتاح للسيولة النقدية، ونتيجة لذلك عندما قررت حكومة الجنوب وقف تصدير النفط عبر الشمال في يناير 2012، بسبب خلاف على رسوم العبور مع السودان، مثَل ذلك انتكاسة كبيرة للاقتصاد الجنوبي وتسبب في خسائر مادية بالمليارات، إضافة لذلك فإن دولة الجنوب المستقلة حديثا تعتمد على الاستيراد من الخارج في كل شيء تقريبا، حيث إن إنتاجها من السلع والخدمات ضعيف للغاية، كما أنها لا تمتلك المقومات الأساسية للدولة سواء البنية التحتية والمنشآت أو الخبرة القادرة على إدارة المؤسسات الحكومية بمختلف أنواعها.
الحروب القبلية
ويعتبر الاقتتال القبلي أكبر مهددات الدولة الحديثة التكوين، وتفقد البلاد الآلاف من أبنائها سنويا وتهجر آلاف الأسر، وربما قرى ومناطق بأكملها، ويشكل التكوين القبلي أرضا خصبة لنشوب النزاعات وعدم الاستقرار الأمني والسياسي، وهو أمر مرتبط بالصراع القبلي التاريخي على الثروة وكيفية توزيعها. وأكبر مثال على ذلك الصراع التاريخي بين قبيلتي "الدينكا" و"النوير" أكبر قبيلتين في الجنوب، حيث انعكس صراعهما التاريخي على الخلاف بين الرئيس سلفاكير، الذي ينتمي إلى قبيلة الدينكا، ونائبه رياك مشار، من قبيلة النوير، إلى الحد الذي دفع الرئيس إلى تقليص صلاحيات نائبه.
تحذير أممي
ويرى القيادي في حزب التغيير المعارض بدولة الجنوب، كوال مادينق، في حديث إلى "الوطن"، أن الجيش الشعبي لدولة جنوب السودان لا يزال يعتبر عبئاً وجزءاً من المشكلة، أكثر من كونه جزءاً من حل للمشكلات الأمنية، ويستدل بحملات نزع الأسلحة من أيدي القبائل في ولاية جونقلي خاصة المورلي، وكيف أنها قد فشلت بسبب اعتقاد الكثيرين أن الدينكا الذين يشكلون أغلبية عناصر الجيش الشعبي، ويتغلغلون في مراكز الدولة يقومون بتجريدهم من أسلحتهم التي يحمون بها ممتلكاتهم وأموالهم، وربما يغدرون بهم فيما بعد إن هم قاموا بتسليم الأسلحة.
وسبق أن وقعت مواجهات عرقية في الماضي بين قبيلتي النوير والمورلي، ففي نهاية عام 2011 زحف نحو ثمانية آلاف من أفراد قبيلة النوير نحو منطقة البيبور وقتلوا ونهبوا ردا على هجمات قالوا إن قبيلة المورلي نظمتها، وتحدثت الأمم المتحدة آنذاك عن سقوط 600 قتيل، بينما يعتبر مادينق العدد أكبر بكثير.
وتشهد منطقة جونقلي بجنوب السودان حاليا نزاعا قبليا هو الأعنف بين قبيلتي النوير والمورلي، وقال أحدث تقرير لبعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان إن ما لا يقل عن 888 شخصا لقوا مصرعهم في معارك عنيفة دارت بين القبيلتين في الفترة ما بين ديسمبر وفبراير الماضيين.
وحذرت الأمم المتحدة والعديد من المنظمات العاملة في المنطقة من تحركات جديدة للآلاف من شباب قبيلة النوير في طريقهم إلى منطقة البيبور التي يقطنها أفراد قبيلة المورلي. وقالت المنظمة إن العديد من القرى أخليت من السكان الخائفين الذين فروا إلى الغابات القريبة والأدغال، كما أعلنت المنظمة الدولية أن أكثر من 100 ألف مدني في جونقلي لا تصلهم أي مساعدة إنسانية بسبب المواجهات القبلية الدائرة في هذه الولاية الواقعة في شرق دولة جنوب السودان.
وتدور منذ أسبوعين تقريبا معارك عنيفة بين آلاف المسلحين من قبيلتي النوير والمورلي، واعترف الجيش الشعبي بعدم قدرته على منع وقوع المجازر المرتقبة، وكذلك أعلنت الأمم المتحدة أن جنودها في المنطقة لا يستطيعون مساعدة السكان، وأن أي تحرك من جانب قواتهم يعتبر انتحارا في ظل الأعداد الكبيرة لمحاربي النوير العازمين على القضاء نهائيا على قبيلة المورلي، إلا أن القيادي في الحركة الشعبية، أتيم قرنق، قلل من تأثيرات الصراع القبلي بجنوب السودان، ولاسيما ما يحدث في منطقة جونقلي، وقال إن الصراعات القبلية نتاج طبيعي لانتشار السلاح وصعوبة التحرك في المناطق النائية، مما يحول دون فرض هيبة الدولة.
العلاقة مع الخرطوم
أما على صعيد العلاقات مع السودان، فشهدت توترا واسع النطاق منذ الانفصال عام 2011 وتبددت الآمال بإقامة علاقة جوار آمن بين الدولتين اللتين لم تكفا عن تبادل الاتهامات بدعم كل منهما للحركات المعارضة لدى الأخرى، غير أن التوتر بلغ ذروته عندما قررت دولة الجنوب في يناير 2012 وقف إنتاج النفط بسبب خلاف بين حكومتي جوبا والخرطوم حول تحديد رسوم عبور النفط الجنوبي عبر موانئ السودان، وأدت هذه الخطوة إلى تزايد حدة التوتر مع دولة السودان الشمالية والتي تأثر اقتصادها أيضا بقرار وقف إنتاج النفط، ووصل الأمر إلى حد الاقتتال بعد دخول الجيش الشعبي إلى مدينة هجليج، الواقعة على الحدود بين البلدين والغنية بالنفط، في أبريل من العام الماضي وسيطرته عليها.
ذكريات دامية
وبدأت شرارة الحرب تلوح في الأفق بعد دخول قوات الجيش السوداني إلى المدينة لتحريرها من سيطرة الجيش الشعبي، وهو ما أعاد إلى الأذهان ذكريات الحرب الدامية التي استمرت عقودا طويلا بين الشمال والجنوب وراح ضحيتها ملايين الضحايا، ولكن سرعان ما تم احتواء الأزمة وانسحب الجيش الجنوبي، ولا سيما بعد الضغوط الدولية والإقليمية التي مورست وأجبرت الطرفين بالعودة إلى طاولة المفاوضات.
وبعدها عقدت عدة جولات للتفاوض بأديس أبابا تمخضت عن برتوكول للتعاون تم توقيعه في 27 سبتمبر من العام الماضي، شمل تسع اتفاقيات تناولت عدة ملفات، من أبرزها اتفاق أمني بين الدولتين يمنع دعم وإيواء المتمردين، وإنشاء منطقة عازلة بين حدود البلدين بعرض 10 كيلومترات في كل بلد، إضافة إلى اتفاق نفطي حدد رسوم عبور ومعالجة النفط الجنوبي في المنشآت السودانية، غير أن الاتفاقيات التسع لم تشمل قضيتي أبيي وترسيم الحدود اللتين ظلتا معلقتين حتى الآن وتنذران بتجدد التوتر في أي لحظة، وظلت تلك الاتفاقات عدة أشهر حبرا على ورق ولم تدخل مرحلة التنفيذ، ولم يستأنف ضخ النفط إلا في السابع من مايو الماضي، حيث تم تصدير أول شحنة من نفط الجنوب عبر ميناء بورتسودان على البحر الأحمر.