ها هو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يدخل عامه الخامس والستين، ومع ذلك ما زال الكثير في عالمنا العربي والإسلامي يُردد مقولة أن الإعلان العالمي الذي صدر في 10 ديسمبر 1948 ومواده الثلاثين لم يكن إلا صناعة غربية، أراد الغرب من خلاله فرض قيمه ومعاييره على الدول الضعيفة، وبالتالي توظيفه سياسيا لتحقيق الهيمنة على العالم، وهي في واقعها نظرة تسطيحية تدل على جهل مفرط بكيفية نشوء الإعلان! إنني أتساءل: كيف بالإمكان أن يكون ذلك الإعلان من صناعة الغرب في الوقت الذي كانت فيه الدول الكبرى دولا استعمارية لا تحترم حقوق الإنسان، كأميركا في عنصريتها المقننة، والاتحاد السوفيتي في قمعه واستبداده؟ تشير الدراسات الحقوقية إلى أن الإعلان كان نتاجا لجهود حثيثة من دول مختلفة ومتباينة، وأن ظهوره في تلك الحقبة إنما كان يمثل ردا منطقيا على المجازر التي ارتكبتها النازية والفاشية في أوروبا والعالم. ولعل الخلط ب?ن السلوك السياسي الغربي وب?ن استخدامه لمبادئ حقوق الإنسان لتبرير ضغوطه السياسية على الدول، والذي ? يخلو من ازدواجية في المعاي?ر يعد سببا مهما في ا?عتقاد بأن الإع?ن صناعة غربية.

من الأهمية بمكان التعرف على الإسهامات الحقيقية التي جرت في إطار التحضير للإعلان والشخصيات التي شاركت في صياغته، إذ إن العملية التحضيرية للإعلان استمرت قرابة ثلاث سنوات من 1945 حتى 1948، وربما لم تتعرض أي وثيقة عالمية للجرح والنقد والتعديل أثناء مناقشتها كما جرى للإعلان. والذي سيطر فيها اتجاهان: الأول، كان معاديا ومعيقا لإيجاد منظومة حقوقية، وتمثله الدول الكبرى "أميركا والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا"، التي أرادت أن تستغل الأمم المتحدة سياسيا لضمان عدم نشوب حرب عالمية جديدة، والتي كلفت البشرية أكثر من 70 مليونا في الحربين الأولى والثانية.

ومن جهة أخرى، إظهارها أمام العالم بأنها أكثر إنسانية، حتى إن مجرد عنوان "حقوق الإنسان" كان يثير تحفظات الدول الكبرى؛ لأنها تؤثر على مكاسبها الاستعمارية؛ فأميركا كانت تعد هذا العنوان غزوا خارجيا، إذ إن السائد لديهم آنذاك "الحقوق المدنية"، ولم يدخل عنوان "حقوق الإنسان" في الأدبيات الأميركية إلا في منتصف الثمانينات، بل أكثر من ذلك، فحينما تم اختيار السيدة "إليانور" زوجة الرئيس الأميركي السابق "روزفلت" رئيسا للجنة حقوق الإنسان، قامت القيامة ولم تقعد في الحكومة الأميركية، ولكن ضغط المنظمات غير الحكومية هناك أدى إلى رضوخ الإدارة الاميركية للأمر الواقع، وكذلك الحال في بريطانيا العظمى التي كانت ترفض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهي ذات المفاهيم التي طالما اعترض عليها الغرب الرأسمالي.

أما الاتجاه الثاني، فهو مؤيد، لإيجاد صيغة دولية لحماية حقوق الإنسان، وتقودها دول أميركا اللاتينية وفي مقدمتهم "تشيلي وبنما وكوبا" التي كانت الأكثر فاعلية في الوصول للمنتج النهائي، وأسهمت بقوة في إنشاء "لجنة حقوق الإنسان "في الأمم المتحدة، التي تم تعديل مسماها في 2006 إلى "مجلس حقوق الإنسان"، ولا ننسى الدور الرئيس والمحوري الذي لعبته الدول العربية والإسلامية في صياغة الإعلان. هل تعلم أن لبنان لعبت دورا حاسما في وضع نص الإعلان متمثلة في مندوبها الراحل "شارل مالك" الذي كان يشغل منصب نائب رئيس لجنة الصياغة ومقرر لجنة حقوق الإنسان؟ وكذلك المملكة العربية السعودية التي كان لها دور بارز، وكانت الأعلى مستوى من حيث التمثيل في اجتماعات الجمعية العامة، فقد مثلها الملك فيصل بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ وكان حينها وزيرا للخارجية، وهو الذي حث الوفود العربية والإسلامية على عدم التصويت ضد الإعلان، خصوصا بعد النقاشات الساخنة،

وأكد أنه في حالة التردد، فإنه من الأفضل الامتناع عن التصويت فقط، وكان هذا ما حدث بالضبط، فقد تم التصويت على الإعلان من دون اعتراض أي دولة. وهكذا كانت خلطة متنوعة، لا ترتكز على ثقافة بعينها، فلماذا يصر الكثيرون على أن الدول الغربية هي التي صاغت الإعلان؟.