في مقالة لي سابقة أثنيت على وزارة العدل في خطوة كبيرة ومهمة انتهجتها الوزارة لتطوير أداء المحاكم وسرعته. تلك الخطوة متعلقة بالقضايا الإنهائية التي خصصت لها الوزارة دوائر خاصة للنظر فيها (الإجراءات التي لا تحتاج إلى خصومة مثل الأذونات والإثباتات والطلبات والأوقاف وحصر الورثة وولايات القصر وإثبات وصايا وإثبات إعالة والحالة الاجتماعية وغيرها من الإنهائيات) التي تشكل 44% من عمل المحاكم. ويعني هذا أنها أزالت عن المحاكم عبئا كبيرا تمثله هذه النسبة الكبيرة لتطوير أداء المحاكم وسرعته، إلا أنه لا يزال هناك ما يراه الكثيرون مشكلة تحول دون الاستفادة من هذا الإجراء أو هذا الإنجاز.
تلك المشكلة تتمثل في بطء الإجراءات الإدارية، أو ما اصطلح على تسميته "الصادر والوارد"، فتسجيل المعاملة يأخذ عدة أيام، وانتقال المعاملة من مدينة إلى أخرى يأخذ أسبوعا أو أكثر، والمعاملة منذ توقيعها حتى صدورها تستغرق أياما، والموظفون يحتجون بكثرة المعاملات الصادرة والواردة. ولا أدري هل هو نقص موظفين بالفعل أم عدم فاعلية جهاز "الاتصالات الإدارية". والأمر في رأيي يحتاج إلى تقييم دقيق. الذي أعرفه أن جميع وزاراتنا وإداراتنا متخمة بالموظفين.. ونحن نعرف أن "الزيادة أخت النقص"، كما يقول المثل الشعبي.. وهذا صحيح إلى حد ما في كثير من الأمور، فالكثرة تدعو إلى الاتكالية ورمي المسؤولية على الآخرين. ومؤسساتنا الحكومية تشكو هذه المشكلة، لأن التوظيف في الدولة تعدى حدود الاحتياج إلى ما يمكن تشبيهه "بالضمان". وأنا أظن أن معظم وزاراتنا وإداراتنا الحكومية يمكن أن تعمل بشكل ناجح وفاعل بربع طاقتها الحالية من الموظفين، لكن هذا ليس موضوعنا اليوم، لكنني أتحدث عنه، لأن له علاقة وثيقة بالقضية التي أتحدث عنها في المحاكم. ولمعالي وزير العدل فإن المشكلة الأخرى أنه إذا كنا نطور من جهة، ونتعب ونبذل الجهد والمال ونخصص إدارات مساندة للتخفيف على إدارات لديها معاناة، ونجد أن كل جهودنا تصطدم بعوائق تحول دون تحقق الهدف الذي من أجله نسعى لرفع المعاناة، فما الفائدة من كل تلك الجهود؟ لا بد من تقييم دقيق يتم فيه التعرف - مثلا - على: كم من الوقت تستغرق المعاملة من مكتب القضاء، إلى الرئيس، إلى الاتصالات، إلى أن تصل إلى الاستئناف مثلاً؟
وكم من الوقت تستغرق المعاملة منذ تصديقها من الاستئناف حتى تعود إلى مكتب القاضي ويتم تهميشها ثم تنتهي؟
وكم من الوقت يستغرق الخطاب المرسل من مكتب القضاء إلى الرئيس إلى أن يتم تصديره إلى جهة أخرى غير فروع وزارة العدل؟ وهل هناك وقت محدد لمكوث المعاملة في جهتها لانتظار تصديرها؟.. هذه أسئلة مهمة لا بد من الإجابة عليها إذا أردنا حقيقة أن نستفيد من نسبة الـ44% التي تمت إزاحتها عن كاهل المحاكم.
بعض أو معظم المراجعين ـ يا معالي الوزير ـ نساء وكبار في السن، وهؤلاء يترددون عدة مرات ليصدموا بأن معاملاتهم لم تصل أو لم يتم تصديرها، والحجة أن العمل كثير، والمعاملات تأخذ دورها. وهذه ليست حجة. وأنا أعرف أنك - معالي الوزير- تؤمن بذلك، وأنك تسعى إلى التخفيف على الناس وعلى العاملين في وزارتكم الموقرة. لا بد ـ معالي الوزير ـ من وقفتكم الشخصية على هذه القضية. وإن كان البعض يرى أن الوزير لا يقف على مثل هذه الأمور، لأن دوره يتمثل في القيادة وليس الإجراءات، لكن عندما تكون هناك مشكلة تحول دون تحقيق الأهداف التي رسمها الوزير عن طريق تحقيق رؤى بعيدة وإنجازات كبيرة كانت نتيجة قيادته الواعية، فلا بد أن يتدخل، لأن القيادة هنا تتعطل مشروعاتها، والرؤى والأهداف التي وضعها القائد لا تحقق مخرجاتها نتيجة إجراءات بطيئة في بعض الإدارات التابعة.
أتفق مع من يقول إن القائد الأول في المؤسسة يجب ألا يشغل نفسه في أعمال صغيرة، وأن يترك الإجراءات للتنفيذيين.. هذه المقولة صحيحة عندما يبذل القائد الأول جل وقته في أعمال إجرائية تاركا المؤسسة تراوح مكانها دون رؤية، ودون تطوير، ودون تقدم في أعمالها وإنجازاتها، وهذا لا ينطبق على حال الوزارة الموقرة ورأس هرمها. الأمر فقط يتطلب التقييم بتوجيه أسئلة لشرائح من المراجعين في مناطق مختلفة حتى تكون العينة ممثلة لكامل المجتمع، وقد تكون هذه الأسئلة: ما هي المشكلة التي تعاني منها؟ كم مرة ترددت على المحكمة؟ ولماذا؟ كم استغرق وقت معاملتك منذ توقيعها؟ ولماذا لم تصدر إلى الآن؟
هنا يمكن وضع اليد على المشكلة ومعرفة السبب، ثم اتخاذ الإجراء المناسب للعلاج. إن كانت المشكلة تتمثل في ضخامة العمل والحاجة إلى زيادة موظفين فالمشكلة سهلة. وبحلها ستعمل ـ يا معالي الوزير ـ على المساهمة في حل مشكلة بطالة الشباب بتوظيف جزء من النسبة التي تشكل البطالة. وإن كانت المشكلة في عدم فاعلية جهاز "الاتصالات الإدارية" لديكم، فهنا يمكن الاستعانة بإحدى المؤسسات المتخصصة، مثل معهد الإدارة العامة، أو أحد مراكز البحث في الجامعات لإجراء دراسة مستفيضة للمشكلة والتعرف عليها بشكل علمي، والوصول إلى حلول مبنية على دراسات علمية.
خلاصة القول: نشهد لوزارة العدل حرصها على التطوير والإنجاز النوعي بتبني مشروعات جديدة وإجراءات فاعلة تسهم في التخفيف على المواطنين، لكن الكمال لله، وهنا سجلنا مشكلة لها دور كبير في تعطيل جهود الوزارة ومشروعاتها التطويرية، وتتعلق هذه المشكلة بالاتصالات الإدارية التي تمثل عنق الزجاجة ونهاية المطاف لأي معاملة، وبدون حلها يبقى أي جهد دون المأمول.