في مثل أوضاعنا الراهنة لا حيلة عدا أن نكون شيئا من النافورة الصدئة، نعودها بقدمين متورمتين أعياهما الترحال هربا من شتيمة أطلقها الضجر في وجه ما كان ميؤوساً من عافيته!
قد لا نلتصق بالميؤوس من عافيته كما في حال أي توأمين سياميين، أي إننا لا نمثل بعضا من معضلات كينونته فيشاركنا ـ مضطراً ـ جزءاً من كلفة الانفصال التام عنه، ولكننا نشكل حالة الإفلات الاصطناعي عند انطلاق مركبة إلى خارج حدود الجاذبية، بينما يبقى المصير رهنا لآلية التحكم في مكان آخر مختلف الخاصيات والظروف.
لم نكن عند مستوى الإدراك الكامل بماهية المستقبل الذي نلوك "لبانته" بين فكين منهكين!! وعندما قرر البعض مغادرة جحورهم القديمة موقتا، فلكي نخرج منها - نحن- إلى التشرد على حين ظلت تلك الجحور مشرعة أمام "هذا" البعض.. ووحدهم البسطاء دون مأوى!
كانت الهتافات تشق عنان السماء (الشعب يريد...) وظل عدد كبير من أعوان النظام يهتف معنا لترسوا عليه - فيما بعد - مناقصات ترميم الجحور القديمة..
أسأل أينا يحرز قصب السبق في ملهاة التقدم إلى الخلف.. نحن أم النظام السابق، حيث نبدو الآن كما لو كنا توأمين سياميين خضعا لعمل جراحي غير متقن، فأخذ أحدنا بعضا من أحشاء الآخر وتركه يتحسس خواء الأجزاء المسروقة! عجباً! كيف دارت كل تلك المفارقات على ذلك النحو من الملهاة اليومي لحركة الواقع.. فالشعب يريد إسقاط النظام ويترجم رغبته بإضافة أحزاب المعارضة إلى كيان مؤسسات... السابق؟ تكتوي الضمائر بلسعات الشتاء المحتقن. وتقول نشرة الأحوال الجوية إن زمهريراً قارساً ينتظر ربيع الهملايا.
نسأل ثانية: ألم تكن معاناة الناس أنضجت عناقيد الغضب، وشقت جوف النفق المظلم، وامتشقت الحناجر سيوفا صقيلة، وروى النبع الأحمر المتدفق من شرايين الضحايا تباريح شجن عتقته السنون لذات فرح قادم؟ يسأل أشدنا تذاكٍ: كيف صار الأسوأ دليلاً على الصيرورة الثورية؟
وإذ يجلس النظام السابق وخصومه الأتقياء على طاولة واحدة، وما كان حكرا على أحدهما يغدو قسمة بينهما، وإذ يصبح الماضي كائنا ماديا ومعنويا ويمارس الحكم بوصفه واقعا لا يقرره احتمال الناس أو رضاهم، فما ضرورة التعلق بأسمال الضحايا؟
الشعب يريد إسقاط النظام.. ثم الشعب يريد معرفة ما كان قصده من النظام؟ وتاليا الشعب يريد إنقاذ نفسه من وحل الشعار، إذ لم يسقط أحد غيره!
تنزف اللغة ويرتسف المصطلح وتصبح عبارة السابق كل رأسمال الديناصور الموازي على طاولة الوفاق الحكومي.. بيد أنه ما يزال على الشاردين في هضبة الوهم الهادر أن يكونوا على أهبة الاستعداد لتنفيذ الخدع المستحدثة.
ما من وظيفة يعرفها الزعيم القديم وتوأمه الوافد من المعارضة غير سياسة اللعب على كل الحبال، وطحن المبادئ واستهلاك الشعارات والأزمنة والموارد وأعصاب الناس أيضا.. سلق التصريحات المتغطرسة.. إحداث جلبة ضوضاء في بهو الفراغ الممل وانتضاء الوطن مفردة بلهاء في بيانات النعي المعدة سلفا.
ها هم بذات الخفة يعتلون خشبة المسرح الكوميدي ويعيدون نفس المشاهد المكرورة.. هنا حيث كل شيء لا يساوي شيئا، ونفسها الآلة المتهالكة تشتغل على نسخ صورة أشد رداءة من الأصل!! نبكي فيضحكون نيابة عن الكتل الضاجة بالهتاف!! لا وقت للمراجعة، والذين بصموا على إخراج النظام السابق من غرفة الإنعاش إلى عربة مصفحة تمنع عنه المساءلة، وتحميه من العدالة، وتضعه فوق القانون، عادوا إلى المطالبة بالعزل السياسي! بيد أن مصلحة الشعب لا تكمن في الحصانة ولا بالعزل، وإنما في العثور على الدولة واستعادة نزر من ثرواتها المنهوبة في الداخل أو المهربة خارج الوطن.
شعب يتكفف لقمة العيش، وخزينة عامة على وشك الإفلاس، ورجال حكم يتوسلون المساعدات والقروض بغية الاستحواذ عليهما.. شعب هذا وضعه، ماذا تساوي السياسة في ميزان أولوياته؟
إن أكثر التسويات عدالة ومنطقية تلك التي تفضي لانتشال اليمن من معضلاته الاقتصادية المتفاقمة، والتعامل الجاد مع المخزون المالي المستخدم لإثارة الصراعات والتأثير السلبي على استقرار البلاد، والمقوض فرص إعادة بناء مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة.
اليمنيون جاهزون للمضي خلف دعوات الرئيس عبدربه منصور هادي المنادية بفتح صفحة بيضاء تجلل اليمن الجديد.. أقول جاهزون شريطة الكف عن المقايضات الظالمة بين فرقاء الاستحواذ - المزدوج - على مقدرات البلاد طوال أربعة عقود من الزمن.
لسنا بصدد الانتقام من أحد، ولا نفكر بشعار المواطنة المتساوية مع ذوي الثراء غير المشروع.. ما ندعو له تقليص الفجوة الهائلة بين هؤلاء وشعبهم المسروق.. هل يكفي السماح لكل منهم بادخار 20 إلى 30 مليون دولار وما فاض للخزينة العامة؟ أليس حريا بشعب يشكو الفاقة انتهاج مصالحة تنطوي على مصالح متوازنة تثمر مردوداً غير سياسي؟ أليس عدلا الأخذ بهذه التسوية كقاعدة تسري على كل أطراف الصراع، وليؤدي القرش الأبيض دوره في اليوم الأسود، وتتوافر أسباب الوقاية من أمراض التخمة؟.. يزيد مقدار السماح قليلاً أو ينقص.. المهم مردود التسويات السياسية على اقتصاد الوطن ومصلحة الشعب.
لو حدث هذا فعلاً فسنكفي الأشقاء مؤنة الكفاف المزمن، ونعفي البنك الدولي من تبعات الاتفاق على مكتبه في اليمن، وفوق ذاك لن تحتاج العمالة الفائضة إلى كفلاء ومنافذ تسلل، ويومئذ فإن الصفحة البيضاء واليمن الجديد سيخرجان من نطاق الخطاب السياسي للرئيس هادي إلى وطن الكفاية، وحصانات الـ30 مليون صافي أرباح أيّ من شركاء النفق المظلم في هذا اليمن الذي كان سعيدا كما تروي السير.