لدينا هنا جورج كولوني وبراد بت وفرانسيس ماكدورماند وتيدا سوينتن وجون مالكوفيش في مكان واحد. يقدمهم الأخوان كوين في أحد أهم أفلام الكوميديا السوداء Burn After Reading. الكوميديا السوداء هنا تعني درجة حادة من الألم، حالة صاخبة منه. إنها الحالة التي يضحك فيها الإنسان من آلامه ويسخر منها. هي حالة من القوة وأحيانا حالة من النهاية. إحدى صور جمال السينما أنها قدمت على مدار تاريخها القصير عددا من الأعمال التي تكشف ظلام الإنسان والسواد في داخله. قدمت عددا من الأعمال التي تضيء صورا قاتمة من التاريخ الإنساني، صورا كان فيها الإنسان رخيصا جدا وتحول الواقع فيها إلى مكان مرعب ومروع.
مواقف الناس تختلف من السخرية من الألم أو من الأحداث التي تعني كثيرا للناس وترتبط بحياتهم وتجاربهم الثمينة. البعض يرى أن السخرية هنا تحطّ من إدراكنا لخطورة المواقف التي تحيط بنا. السخرية قد تصل بنا إلى عدم التفريق بين المهم وغير المهم. بين الحدث الذي يتطلب العمل والحركة وبين الحدث الذي نكتفي تجاهه بالسخرية. الحياة جدّ في آخر المطاف ومن لا يأخذها بجدّية فهو خاسر بلا شك. في المقابل يمكن قراءة السخرية على أنها طاقة للعمل. بمعنى أن السخرية قادرة بشكل مذهل على كسر كثير من الحواجز النفسية التي تفصلنا عن التواصل النقدي مع الأحداث والأشخاص. نحن نعيش في عالم من الهالات تحيط بالتاريخ وبشخصيات محددة من الناس. نتعلم مبكرا أن هذه الأحداث والشخصيات أبعد من قدرتنا على التصوّر وبالتالي أبعد من قدرتنا على التقييم الشخصي والنقدي. السخرية هنا هدم لهذه الحواجز والهالات التي تعيق نظرنا وبالتالي فعلنا. السخرية هنا جرأة وشجاعة واختراق لحاجز الصوت النفسي والفكري. مع السخرية نتحرر ونستعد نفسيا وفكريا للتغيير.
في فلمنا لهذا اليوم السخرية من المخابرات الأميركية وتجاوزها لحدود القانون هو كسر لحاجز الهيبة تجاه هذا الجهاز، الذي يراد لنا من خلال قنوات أخرى أن يبقى بعيدا عن تطاول الناس عليه بالنقد والتحليل وبالتالي بعيدا عن السخرية. الهالة التي تحيط بهذا الجهاز هي موضوع السخرية الأول ومقصدها الأساسي. مع كسر هذه الهالة يفترض أن يتسرب النور للعيون الناقدة لتكتمل حلقة التفكيك والإضاءة.
عنوان الفيلم يشير إلى عبارة شائعة في عالم المخابرات وأجواء الخوف. (أحرق الوثيقة بعد قراءتها). امتلاك المعرفة هنا هو دليل على جريمة تستحق العقاب. لقرون طويلة كان وجود كتاب معين مع شخص ما يعتبر خرقا لقانون حظر ورقابة المعرفة والفكر. لكن وبما أن المعرفة شرط لحياة الإنسان فقد استطاع التكيّف ليخفي المعرفة عن أعين الرقباء. المعرفة حين تدخل لعقل وذاكرة الإنسان تختفي عن أعين مراقبيه وحرّاس المعارف. حين نقرأ تصبح المعرفة جزءا منّا وبالتالي فإن حرق مصدر المعرفة لا يهمّ كثيرا ما دامت محتوياته قد انتقلت لمأواها الآمن.
يلتقط الأخوان كوين في هذا الفيلم إحدى هذه الصور ويضعونها أمامنا لنحرقها بعد أن ننتهي من مشاهدتها!! تبدأ هذه الصورة من عميل للاستخبارات يتم طرده من وظيفته ليقوم بكتابة معلومات سرية تصل بالصدفة إلى أيادي باحثين عن المال يلعبون بالنار لتمتد للجميع، فيما يفكر قليلا رجال المخابرات في النتائج. من المعلوم أن في تاريخ السينما الأميركية خطا مهما قدم أعمالا كثيرة لكشف الكثير من أعمال المخابرات الأميركية ضد المواطنين أو في الخارج. أتوقع المزيد من هذه الأعمال بعد تسريب معلومات كثيرة عن تجسس المخابرات الأميركية على أماكن عديدة في العالم. من المعلوم أيضا أنه إبّان الحرب الباردة أخذت الأجهزة الأمنية فرصة لتجاوز القانون تحت ذريعة الأمن الوطني. الفن هنا يحضر بوصفه صوت الإنسان وصورته. الفن الحقيقي يحضر بوصفه نورا وكشفا وإضاءة تبحث الإنسان لتظهره لا بوصفه جميلا أو قبيحا بل بوصفه حقيقيا. أظهر الإنسان في الصورة والرسالة ستصل بلا شك. في الفن الحقيقي يحضر الإنسان بوصفه الموضوع والقضية بينما في الفن الزائف يحضر الفن باعتباره أداة ووسيلة يتم استخدامها لأغراض مختلفة.
نذكر في هذا السياق مجموعة الأفلام التي أنتجت عن المكارثية في أميركا حين قام السيناتور مكارثي بملاحقة العديد من السياسيين والفنانين بذريعة الشيوعية، مستغلا الرعب الشعبي الأميركي من الاتحاد السوفييتي في بداية الحرب الباردة. هنا يحضر الفن الحقيقي كما التاريخ الحقيقي كما الفكر الصادق في كشف جزء من الألم الإنساني. في فيلم هذا اليوم تبدو الصورة أكثر قتامة، حيث تظهر الصورة سوداء بشكل كبير، تبدو الصورة فوضى حقيقية، فأيادي السلطة تبدو طويلة جديدة ولا تقف في وجهها قوى كافية. لا أستبعد أن تكون مشاركة هذا العدد الكبير من النجوم وفي أدوار تبدو قصيرة عليهم جاء بدافع فني إنساني كبير، حيث من المهم للفنان أن يكون ضمن رصيده الشخصي عمل له قيمة إنسانية، عمل يرضي فيه ضميره بوصفه مقاومة للشر، هذه الأعمال تبقى في الذاكرة طويلا خصوصا إذا توفرت فيها الشروط الفنية الضرورية. أي حين تكتمل المعادلة الناجحة، عمل فني متقن وعال المستوى وفكرة ثمينة تجعل الإنسان في قلب الحدث.