من الأشياء التي أعتزّ بها في مسيرة حياتي هو أنني أصدرت من باريس عام 1991 باللغة العربية ولقرّاء العربية مجلّة "قراءات" المتخصصة بالكتاب الأجنبي. كانت مغامرة جميلة. هذا فضلا عن أنها كانت تعبيرا عن قصّة حب مع الكتاب.
كل كتاب مغامرة منذ أن ينطلق. ودائما تكون المغامرة أكبر إذا لم يكن صاحبه من الأسماء المتداولة في عالم القراءة والقرّاء. الكتب درجات. بعضها لا يساوي قيمة ورقها ولا الحبر الذي كُتبت به. وبعضها قد يغيّر مصائر ومقادير أمم، بل ويساهم في رسم مسارات التاريخ.
ومقياس قيمة الكتاب لا تتحدد بعدد النسخ التي يوزعها. فهذه المسألة مرهونة بعلل وأسباب عديدة قد لا يكون لجودة الكتاب أو لرداءته سوى نصيب قليل منها. فكم من أمّهات الكتب بقيت مهمّشة لزمن طويل قبل أن تقع بيد عارف يبرز قيمتها. وكم هي طويلة سلسلة الأعمال الكبرى التي لم تجد في البداية ناشرا لها خوفا من شبح "الخسارة".
ومن عبقرية الكتب "الروائع" أنها تتحدّى الزمن نفسه ولا تفقد شبابها أبدا. ودائما تكشف لمن يعيش مغامرة التمعّن فيها موطن جمال جديد أو فكرة جديدة. وليس صدفة أن تكون أعمال شكسبير المسرحية معروضة اليوم على الكثير من خشبات المسارح في العالم أجمع، وهي التي مضت على كتابتها قرون عديدة. وهناك أعمال بيعت منها ملايين النسخ ولا نزال نرى طبعات جديدة منها اليوم.. ولا شك غدا.
كل كتاب مغامرة ودعوة للقراءة. هكذا كان الأمر دائما منذ زمن ورق البردي قديما وحتى زمن الحاسوب اليوم؛ معايير الاختيار ودوافعه هي التي قد تتبدّل.
في أيامنا هذه أصبح الكتاب سلعة كغيرها تخضع لمعايير الترويج والتسويق. والحضور الإعلامي للكتاب يضمن ارتفاع رقم نسخه المباعة. ويكفي أن يكون في عداد قوائم الكتب الأكثر انتشارا التي درجت المطبوعات العديدة على إعدادها ،خاصّة في الغرب، كي يتعاظم رقم توزيعه. وهذه القوائم لها معاييرها ومقاييسها و "كواليسها" وقنواتها. هذا ناهيك عن الرواج الكبير للكتاب إذا حظي بـ "المرور" في أحد البرامج التلفزيونية المكرّسة للكتب.
للإشارة عبورا؛ لا يزال الكتاب والكتابة والكتّاب في عالمنا العربي هم دائما بمثابة "الأهل الفقراء" في عالم الإعلام عامّة والتلفزيون خاصّة، والأولوية في عبور تلك الإشارة هي لبرامج الترفيه والتسلية وطبعا الرياضة.
إن الكتاب الناجح "توزيعا" اليوم هو الذي يستجيب بالضرورة لمعايير الثقافة السائدة. ولا يمكن التأكيد أن بيع ملايين النسخ خلال فترة قصيرة من سلسلة "هاري بوتر" الشهيرة، التي تسابق الناشرون لترجمتها في جميع أنحاء العالم، يعود فقط إلى قيمتها الأدبية. ولم تكن هذه القيمة هي التي دفعت المئات إلى الانتظار ساعات طويلة أمام المكتبات يوم صدور أحد كتب السلسلة للحصول على نسخة قبل الآخرين.
لا شكّ أن الكتاب هو اليوم ضحية مزاحمة حقيقية من قبل التلفزيون، صاحب الحصّة الأكبر من "استهلاك" وقت مشاهديه؛ أي أغلبية الناس كما تدل مختلف الدراسات واستطلاعات الرأي. ومزاحم آخر تمثله "شبكة الإنترنت" ومعلوماتها السهلة. بكل الحالات يبدو من الواضح أن مستهلكي وجبات "الماكدونالد" وغيرها من الوجبات السريعة والجاهزة لهم من يناظرهم في تفضيل وجبات المعلومات السريعة والجاهزة على جهد القراءة والتمعّن والغوص في عالم الكتاب. والطلبة أصبحوا يكتفون اليوم بالكتاب المدرسي، هذا إذا فعلوا ذلك، دون الذهاب إلى إضاعة "وقتهم الثمين" فيما هو أبعد من ذلك والبحث في خبايا كتاب. الضحيّة في هذا كلّه هي المعرفة التي تضمر بسبب "قلّة التغذية".
يقولون عن الكتاب إنّه خير جليس وأنيس. وهو خير جليس وأنيس وعالم من المتعة. لكنه يعاني اليوم من الوحشة وقّلة الأنس.