عندما اعتلت "هبة" المنصة لم أكن قد سمعت بها، ولكنها وخلال أول دقيقة من عرضها استطاعت أن تجذب اهتمام الجميع، لقصة فتاة سعودية استطاعت أن تغيّر من واقعها العادي؛ فمن مجرد صيدلانية تعمل في مستشفى بالقرب من منزلها إلى أن أضحت حالياً تشغل منصب وكيل ثاني كلية صيدلة بالمملكة!

تفصح "هبة الدوسري" عن أول أسرارها من الجملة الأولى: أنها لم تكن تعلم بوجود كلية صيدلة من الأساس، إذ إنها بعد زواجها المبكر في جدة وانتقالها لمقر عمل زوجها في الرياض، ذهبت لتسجل في جامعة الملك سعود حيث وجدت تخصصاً جديداً وهو اللغات الأوروبية والترجمة، واختارته فورا دون أن تخبر زوجها أو أهلها، خوفاً من رفضهم لأنها كانت خريجة القسم العلمي وبتفوق! فضلاً عن وصية والدها لزوجها أن تلتحق بكلية الطب، لكن زوجها فور اكتشافه اختيارها ذهب بنفسه وغيّر التخصص إلى الصيدلة! لعلمه برفضها المطلق للطب، وإغلاق باب التسجيل في طب الأسنان.

لم تحب "هبة" دراستها الجامعية، وكانت دائماً ما تمني نفسها بالتحويل نهاية كل فصل دراسي، حتى فوجئت بالتخرّج بعد سنوات، لتقوم باختيار وظيفتها عشوائياً دون اهتمام، حيث عملت صيدلانية في مستشفى قريب من بيتها! تقول "هبة": "تجربتي الوظيفية الأولى كانت بائسة للغاية.. كنت عالقة في حياة مملة ومليئة بصراعات إدارية استنزفت جهدي وطاقتي"، والأسوأ من ذلك أنها شعرت بالفراغ ولم تكن هذه فكرتها عن الحياة الوظيفية، لذا قررت أن تحدث تغييراً في حياتها يجعلها أكثر إنتاجية والأهم أكثر سعادة. وهكذا التحقت ببرنامج الماجستير في قسم الصيدلانيات بجامعة الملك سعود، وكان اختيارها للتخصص نابعاً من ملاحظاتها لاختلاف التفاعلات الجانبية للأدوية حسب صيغتها الصيدلانية. في مرحلة الماجستير التقت هبة بمشرفتها العلمية الدكتورة "أمل الكامل" "التي أعادت تشكيلي من جديد"، على حد قولها، حيث كانت "هبة" في بداية البرنامج متعجّلة وغير صبورة، وسريعة التذمر والشعور باليأس حال مواجهة العقبات، لكن مشرفتها كانت تقابل كل هذا بالصبر والحلم، والتأكيد على أن أهم مبادئ البحث العلمي هي التجربة وإعادتها بكل أناة وصبر، الأمر الذي جعل "هبة" تتيقن أن هدفها في الحياة سوف يكون البحث العلمي.

بعد حصولها على الماجستير عام 2005 استقطبت للعمل في مدينة الملك فهد الطبية؛ كرئيسة لصيدلية مستشفى الأطفال، مما كان له الأثر البالغ بشحذ قدراتها الإدارية والقيادية، ولكن لظروف عمل زوجها وانتقاله إلى جدة جاءت فرصة لم تكن بالحسبان، حيث التحقت بالعمل كمحاضرة في قسم الصيدلانيات والصيدلة الصناعية بكلية الصيدلة في جامعة الملك عبدالعزيز، وتزامن التحاقها بإعلان تأسيس ثلاثة مراكز رئيسية لتقنية النانو بالمملكة، أحدها في جدة، مما جعلها تقدم على القرار الأصعب في حياتها؛ وهو الابتعاث الخارجي للحصول على الدكتوراة في تخصص "النانو"، حيث حصلت على القبول من جامعة "استراثكلايد" بجلاسكو في بريطانيا.

قرار الدراسة في الخارج لم يكن سهلاً، فلقد كانت "هبة" زوجةً وأماً لثلاثة أطفال، كان قراراً صعباً اتخذته بعد تفكير طويل حول سهولة تأقلمها بعيدا عن الوطن مع أطفالها، لكنها عاهدت نفسها على أمرين اثنين: الأول أن تلتزم بهدفها مهما كانت الصعوبات، والثاني التفاؤل ونبذ الإحباط، وبدأت بإنهاء متطلبات اللغة قبل سفرها حتى لا تضيّع أي وقت.

لم تكن البدايات مشجعة، بل تعسّرت بالكثير من العوائق والتحديات، أولها تزامن وصولها مع دخول فصل الربيع، الذي يأتي في "جلاسكو" متخفياً في صورة شتاء ثلجي أبيض مصحوباً برياح وأمطار متواصلة! ورغم هذا الشتاء الذي لم تتعود عليه "هبة" وأطفالها؛ إلا أنه تحوّل مع مرور الزمن إلى أروع فصول السنة التي تحبها! أما عقبتها الثانية وهي الأصعب فلقد كانت تنتظرها عند مشرفتها على الدكتوراة، حين التقتها أول مرة، وناقشتها في موضوع البحث والذي كان مختلفاً كلياً عن مقترحها، ثم أخذتها في جولة لتعرفها على طبيعة العمل وأعضاء الفريق البحثي، وفي نهاية اللقاء سألتها المشرفة: "هل لديكِ أي استفسار؟" أخبرتها "هبة" أنها مرتبطة بأسرتها وأنها تريد الانتهاء من الدكتوراة في ثلاث سنوات كحدٍ أقصى! نظرت إليها المشرفة مطولاً وبصمت، ثم قالت "حسناً ثلاث سنوات فقط هي كل ما لديكِ.. وهذا يعتمد عليك أنتِ وحدك".. وهكذا سجلتا تاريخ الانتهاء وصار أمام "هبة" هدفٌ شبه مستحيل للانتهاء خلال ثلاث سنوات فقط!

مشروعها البحثي كان مختلفاً عما درسته مسبقاً، كان يتضمن التعامل مع الخلايا السرطانية المختلفة، وتجربة أنواع محددة من الصيغ الجينية غير الفيروسية باستخدام تقنية النانو، كانت تجربة معقدة وجديدة، كانت غالباً ما تعود إلى بيتها وقد جاوزت الساعة العاشرة مساءً، انغمست بشدة في أبحاثها وتأقلمت مع أسلوب عمل الفريق البحثي الذي كان يضم جنسيات مختلفة من الباحثين. كما اكتشفت طبيعة المجتمع البريطاني خلال تلك الفترة كونها تؤمن أن الثراء المعرفي لا يتحقق فقط بالانفتاح على العلوم والآداب والحضارات، ولكن أيضا بالتعايش الإنساني مع الناس باختلاف مشاربهم.

في بداية عامها الثاني تجمعت لديها نتائج جيدة من بحثها، فشاركت في المؤتمر السعودي الدولي للطلاب الدارسين في بريطانيا، والذي أقيم بجامعة "سري"، وفازت بالمركز الثالث كأفضل ملصق علمي في المحور الصحي، بعدها بأسبوعين أقيمت مسابقة يوم البحث العلمي لأقسام العلوم الطبية والصيدلة والكيمياء التحليلية؛ وفازت –مرة أخرى- بجائزة أفضل ملصق علمي لطلبة السنة الثانية من الدكتوراة، مما شجعها على الاستمرار في حضور المؤتمرات العلمية ليس في بريطانيا فقط، بل إنها في بداية السنة الثالثة شاركت في أميركا بالمؤتمر العلمي السابع والثلاثين لجمعية CRS، مما لفت أنظار المحررة العلمية لمجلة الجمعية والتي نشرت بحث "هبة" على غلافها الرئيس، ثم توّجت جهودها بفوزها بجائزة التميز البحثي لطلبة الدكتوراة في جامعتها، وبتكريمٍ من عميد الكلية كذلك، وذلك بعد نشرها لأبحاثها في مجلات علمية عالية التأثير.

اجتهدت "هبة" وسهرت الليل واهتمت بعائلتها الصغيرة حتى في أدق التفاصيل، والأهم من ذلك كله؛ أنها حققت هدفها الصعب وحصلت على درجة الدكتوراة في الوقت الذي حددته لنفسها لتكرم أثناء حفل التخرج عام2011 من جامعتها، وتُذكر بصورة منفردة كطالبة سعودية ضمن إنجازات جامعة "استراثكلايد" في إشارة إلى الجوائز العديدة التي حصلت عليها. بعد عودتها للممكة عينت أستاذاً مساعداً في الصيدلانيات، لكن طموحها لم يتوقف عند ذلك فهي تعمل حالياً على تجهيز معمل متقدم وتكوين فريقٍ من الباحثين، لاستكمال أبحاثها عن البدائل الآمنة والفعالة للصيغ التقليدية الصيدلانية، وها هي بعد فترة وجيزة تكلف بالعمل وكيلة لكلية الصيدلة بجامعة الملك عبدالعزيز، ما منحها الفرصة للاهتمام بتنمية وتطوير القدرات والكفاءات المحلية الواعدة من الفتيات السعوديات، وأن تشارك في خدمة المجتمع بشكل أوسع.

حين نتأمل حياة "هبة" الآن، نجدها مفعمة بالحيوية في عملها وبين طالباتها، وندرك أن صناعة النجاح ممكنة متى ما توافرت الإرادة والعزيمة، ومتى ما توفر لهذه الفتاة السعودية زوجٌ مؤمن بقدرات زوجته، فكل الشكر لزوجها "فهد اليامي"، الذي جعلها تختار الصيدلة، وضحى بالكثير خلال فترة ابتعاثها وابتعادها عن الوطن.. نعم إنها "هبة" قولاً وفعلاً.