تحولت روسيا من الشمولية السوفيتية للاقتصاد الحر، وتبدلت أوضاع كثيرة لكنها ظلت "روسيا العظمى"، فذهب لينين وستالين وبريجينيف، وجاء بوتين وما زالت روسيا القوة الثانية في العالم، التي مرت بعقود من المخاض الصعب، لكنها ستظل "البركان النائم" الذي يخشاه الجميع.
في منطقتنا، شأن غيرها، تعود روسيا للواجهة بحثًا عن دور مزاحم لأميركا ودول الاتحاد الأوروبي والصين، في لعبة المصالح وصراع القوى عبر العالم، لا سيما في النقاط الساخنة ومراكز الأزمات، وتسعى موسكو لمواقعها السابقة، ولحلفاء الأمس الذين تهاوت معهم التحالفات القديمة عقب تفكك الاتحاد السوفييتي.
وتتصدر القاهرة الدول التي تعتبرها موسكو مدخلاً للشرق الأوسط، خاصة بعد ترنح أبرز حلفائها بدمشق رغم دعمها الهائل، وبالمقابل ففي مصر رؤية ليست لقطع العلاقات مع واشنطن، أو تحجيمها، لكن لمراجعة علاقات القاهرة بالقوى الأخرى، بدءًا بالتعاون مع الصين في تنمية الصناعات الإنتاجية والتنموية، وصولاً لتنويع مصادر التسليح، مشيرين لما فعلته مصر من قبل بتغيير وجهتها العسكرية، وتعاونها بالمجال العسكري، فهناك تجربة عام 1955، كان سلاح الجيش بريطاني، وبعد ثلاث سنوات من 23 يوليو 1952، أحضرت مصر السلاح الروسي من تشيكوسلوفاكيا أيام عبدالناصر، وتجربة عام 1981 بالتحول عن السلاح الروسي للأميركي بداية عهد مبارك، والتي خطط لها السادات، وها نحن حاليًا بصدد تجربة ثالثة يبدو فيها اتجاه مصر لروسيا واضحًا.
خلال الفترة الماضية تردد على القاهرة كبار المسؤولين الروس كوزير الدفاع ومدير المخابرات وقادة عسكريين وأمنيين، مما يؤكد أن مصر لن تذهب لروسيا، لكنها هي التي تأتي للقاهرة وتعرض سلاحها على مصر، التي تُعيد تقديم "الدبّ الروسي" للمنطقة مجددًا، بعدما لدغته "الحية الأميركية" بيد جورباتشوف قبل نحو ربع قرن مضى، ولعلنا لا نتجاوز الموضوعية حين نرى مصر تُعيد رسم خارطة القوى السياسية الجديدة بالمنطقة.
أما التحرك السعودي فشمل عدة اتجاهات، كفلسطين ولبنان وإيران وروسيا، فالثلاث الأوائل يشكلون "ثلاثي الأزمات الضاغطة" بالمنطقة، لحفظ المصالح السعودية، أما الرابعة فهي روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين أول رئيس روسي يزور المملكة منذ 80 عاما، والتي تمثل بابًا للتغيير المحتمل في الحسابات الدولية المستقبلية، وأحد مفاتيح التأثير على الواقع الإقليمي خلال هذه "اللحظة الفارفة" في تاريخ المنطقة.
وعودة لرؤية القاهرة لخطوة واشنطن بتعليق مساعداتها بأنها مجرد "رصاصة فشنك" لتهديد "الجمهورية الثانية"، مقابل "رصاصة حية" أطلقها الرّوس بإعلانهم دعم الشعب والجيش المصريين، والاتجاه لتنويع مصادر التعاون الاقتصادي والعسكري، أخذًا بالاعتبار أن مصر لن تستبدِل "الكابوس الأميركي" بآخر روسي، لكن القاهرة تُعلن استقلالها عن التبعِية لأي قوّة عالمية، كما حدث في 13 أكتوبر 1973، حينما بدأت فعاليات وقف إطلاق النار عقِب حرب أكتوبر، مع ملاحظة أن العالم لم يعُد قاصراً على أميركا وروسيا، فجنوب شرق آسيا "يعجّ" بالقوى الاقتصادية والعسكرية التي تتحرّك "بهدوء مدروس" جنوب أوروبا ومعظم أقطار قارة أفريقيا.
وسياسيًا تسعى مصر لكسر الاحتكار الأميركي لعملية السلام وإشراك قوى دولية أخرى كروسيا والاتحاد الأوروبي لتحريك الموقف، ويبدو أن روسيا، رغم الظروف التي تواجهها، ما زالت تملك مقومات سياسية وإستراتيجية تؤهلها لأن تلعب دوراً فاعلاً بالساحة الدولية، وإن كان ذلك يشكّل مصدر إزعاج لواشنطن، ورغم ذلك فالدول العربية ستكثف تواصلها السياسي والاقتصادي والعسكري مع موسكو، لتعزيز المصالح المشتركة.
وتشمل هذه المصالح المشتركة مجالات كمكافحة التجسس، والإرهاب الإلكتروني، والتصدي للجماعات الإرهابية، وإمداد مصر بوسائل لكشف المتفجرات، فتقدم روسيا لمصر دعمها الكامل بالمجالات العسكرية وتبادل الخبرات.
وخلال الوضع الراهن تحتاج مصر وحلفاؤها العرب لإعادة بناء جبهة جديدة من الأصدقاء، واستثمار الإمكانات والمصالح لإعادة حسابات التحالفات الإقليمية والدولية، لأنه في عالم بلا حلفاء يصعب على العرب التأثير في المؤسسات والقرارات الدولية، خاصة أن موسكو ما زالت تملك موروث الدولة العظمى، على الأقل استراتيجيًا، مما يؤهلها لتقديم الدعم السياسي على الصعيد الدولي.
تبقى الإشارة إلى أن العلاقات بين الدول متغيرة، والحل بالمدى القصير يتمثل بالحفاظ على توازن العلاقات الدولية، خاصة مع أميركا، مع تنويع مصادر التسليح تدريجيًا، ووفقًا لخطة مدروسة، وعلى المدى البعيد، فلا بد من تطوير المنظومة العسكرية، والتنمية التكنولوجية والصناعية، لزيادة الاعتماد على القدرات الذاتية بمشاركة دول أخرى، لكن ليس هناك من يعتمد على نفسه بنسبة 100%، لهذا تبرز ضرورة الحسابات الجديدة بكل تعقيداتها.