عندما يرحل المخلصون تخفق أفئدة الشرفاء وتدمع عيونهم.. ولأن النسيان صفقة خاسرة لا تغري بالمحاولة حتى، فلم يبقِ من رحيل "رشيد" القلب والعقل والرسالة "محمد الرشيد" سوى كله وليس بعضه، إنها كاريزما المقاعد الإنسانية وحضور الإخلاص والحب والمشاعر النقية!
نشأ بهويةٍ متألقة وعطاءٍ سخي لصناعة المستقبل، فتحَ عينيه على "التربية" من "سبورتها" إلى عمقها؛ فغاص في بحورها لتقوده إلى تدرج مثالي عصامي "مستحق" ومحطات متنوعة ومسؤوليات تسنمها أتته طائعة بخليطٍ فكري أكاديمي تربوي ووزاري، أضاف وأضفى لكل منها بريقاً خاصاً وهيبةً وهاجة جمعت السجايا الحميدة والسمات الشخصية وسعة الأفق في شخص وثير و"سيرة" مثيرة!
نجمه وحضوره سبقاه في كل مكان يجوبه أو يقوده أو يخطه يراعه، فالبصمة "الرشيدة" حاضرة.. تربويٌ حتى أخمصه وباحثٌ أثرى البيئة التربوية وزادها توهجاً بـ(موسوعيته)، حتى أجزم أنه لم يكن في "خريطة" وطني التربوية بأسرها من جمع تلك الهالة من السمات الاستثنائية كما ملكها ذلك "الرشيد" ليتعب من بعده من الوزراء والمسؤولين ومستقبل التربية والتعليم ووزارتها.
(وزيرٌ) كان الأكثر جدلاً بين مؤيديه ومخالفيه، وصاحب الحقبة والحقيبة الأكثر حراكاً (تربوياً) متميزاً على خارطة تاريخ التعليم في وطني، تميز فيها بخلطة سحرية أيقظت الميدان التربوي وبعثت فيه حراكاً بروح العطاء والإنجاز، رغم ما واجهه من "معوقات"، بدءاً من ميزانية مادية ضعيفة حينها، وقضية (إدارية) بحتة يشترك فيها ملف "السعودة" التي أضرت كثيراً بمستويات المعلمين ودرجاتهم المستحقة، أما المنعطف الأكبر والحلقة الأقوى فكان في صراعات علنية أو خفية من داخل وزارته وخارجها من أصحاب التهم المعلبة وخفافيش الظلام والمستقبل.. حتى أنهكوه بحرابهم "المسمومة" ليعُفى من منصبه دون طلبه!
ولأنه صاحب مبدأ لا يتزحزح تصالح مع ذاته أولاً بقول الحق وقوة الحجة والثبات فلم يجد ارتداء قناع التجهّم أو تقمّص دور المسؤول المتعجرف، وإنّما استلذ الصفاءَ الفطري والنقاء الإنساني وسلامة القلب جسارة وتسامحاً فكان حتى مع "مخالفيه ومحاربيه" ذا طموح ونَفَس وجلد على اتهاماتهم وتصنيفاتهم فأرهقهم كثيراً.. دون جرحهم أو إهانتهم، ليسجل مع "القصيبي" - يرحمهما الله - ظاهرة متفردة في "عصرنا" من الحوار الإبداعي الخلاَّق مع المخالفين!
وها هو يرحل بجسده بعد عمر حافل بعطاءات مئات المبدعين والمخلصين، بعد أن قدم لوطنه ما سيبقيه حياً في قلوبنا، لتذكر الأجيال والسنون إنسانيته، عقلانيته، إخلاصه، مواطنته الصالحة، مشاعره الجارفة بعد أن بقي مالئاً وشاغلاً حتى في موته، ولعلهم يفقهون.. ليبقى درسه "التربوي" الأخير يوزع صوراً شتى لكل وزير وسفير ومسؤول.. الصورة الأولى في المواطنة الصالحة الخالصة بخلفية أخاذة في العلم والعمل الخلاق ليعرفوا أجمل صور الصبر والجلد والتفاني من أجل وطن، أما الصورة الأخيرة فهي أعظم درس "تربويّ" يقدمه بلقطة خالدة تسطرها مخيلة وطن وزمن، اختصرها في وهج "كمية" الحب المتدفق ألماً وفراقاً تحسسه جميع شرائح الجميع بمصابهم وفجيعتهم وابتهالاتهم ودعواتهم له..
أيها المسؤولـون اتعظوا من عطاءات هؤلاء الرجال وماذا قدموا، وكيف استقبل الناس رحيلهم، فالأوطان والتاريخ لا يحفظان إلا أسماء عظيمة فقط ليكتباها، وجزماً تحفظها الأجيال والأمم، والتقوقع ديدن الأرض البوار التي لا تاريخ لها، والضعيف بها لا يخلده سوى الضعفاء، أما مدن الخصوبة والحب فتبقى حية، والتاريخ بها لا يحفظ إلا العظماء.. فما أبلغك أيها "الرشيد"، وما أجمل حضورك ووداعك – يرحمك الله -.