في حديث مع زميل وصديق مسؤول في واحد من مراكز التميّز التي تعج بها جامعاتنا، تناولنا هموم البحث العلمي ومسيرة العلم والتعليم في بلادنا الغالية. ولما وصل الحديث إلى مراكز التميّز وأهدافها ونوعية الدراسات المدعومة وكيفية دعمها، ذكر أن الوزارة ويقصد وزارة التعليم تشترط التميز والأصالة في نوعية الأبحاث لدعمها، وتشترط كذلك في الباحث أن يكون متميزا ومبدعا في تخصصه، وهذا كما ذكر ليس إلا "انعكاسا للتسمية، وهو، بالبديهة، لب الفكرة التي من أجلها أنشئت مراكز التميز".
أنا إذن أقترح تغيير المسمّى إلى مراكز التخصص بدلا من التميز، لتتناسب مع قدراتنا وإمكاناتنا وتتفق وموقعنا على سلم العلوم والمعارف. وليس هذا لمزاً للباحثين والعلماء السعوديين ولا غمزاً، فنحن وإن كان بيننا أفراد على مستوى عالٍ من التعليم، إلا أننا لم نصل إلى التميز كما يصفه الزميل وتشترطه الوزارة، فأنا لا أعرف سعوديا نال نوبل أو مثلها في العلوم ولا في غيرها، ومن النادر أن تسمع عن واحدة أو واحد بلغ العالمية وأبدع، وغالبا إن فعل، ما يكون بأبحاث وأعمال خارج الوطن!
لا يمكن أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون كما يردد الكثير دون وعي بالمعنى، فالعلوم وكذلك التقنية، عمليات تراكمية، تنبني لبناتها واحدة فوق الأخرى. لا يمكن إنتاجها منكسة، ولا يمكن كذلك استيراد الأحدث منها والبناء من فوقه، بينما تحته العدم، كما نراه اليوم ونلمسه. التميز هو استيعاب للمعارف وقدرة على إعادة إنتاجها، لا امتلاكها بالمعنى المادي. ولا يقتضي امتلاكنا لمركبة فضاء تأخذنا إلى المشتري معرفة أسرارها، إلا أن يتم بناؤها من الصفر، وبأيدينا. وعلى الجانب الآخر، لا يعني هذا البقاء أبدا في المؤخرة. فبمقدورنا اليوم، وبما تتيحه لنا التقنيات الحديثة ووسائل الاتصال السريعة، التقدم في العلوم أُسيا، ومضاعفة معدل اكتساب الخبرة وتحصيل المعرفة، واللحاق بمن سبقونا، والانتماء إلى عالم المعرفة. كل ما نحن بحاجة إليه إرادة صادقة ورؤية واضحة واستراتيجية متقنة.
فلو – مثلا- كانت هذه مراكز متخصّصة تستوعب الجادّين من العلماء والباحثين، لا تشترط التميز، بمعناه الوزاري، وتدعم أبحاثا جادة، حتى ولو كانت بمستوى أقل من التميز، لأثمرت الجهود وعبّدنا الطريق لمن يأتي بعدنا ويتميز. ولو أنّ هؤلاء العلماء، من الوزن الخفيف والمتوسط، نالوا فرصة في بيئة معدة ومهيأة علميا، وبإدارة ناجحة، وتحت أيديهم ما يحتاجون إليه من مواد وتجهيزات لترقّوا في سلّم العلوم وصنعوا التميز لاحقا وأنتجوا المتميزين.
لا يمكن أن ننتظر أكثر، فالهوة في اتساع، وقريبا سيأتي اليوم الذي لن تكون فيه العلوم متاحة للجميع، وستندرج كل التقنيات الحديثة والمعارف تحت حماية حقوق الملكية الفكرية... عندها يصدر الحكم علينا بالموت. وفي احتكار شركات الأدوية لإنتاج عقاقير مرض الإيدز مثال بارز لما يمكن أن تكون عليه الحال في باقي العلوم والتقنيات في المستقبل. يموت الآلاف من الأفارقة وغيرهم من فقراء العالم يوميا بسبب المرض لعجزهم عن دفع تكاليف العقاقير التي تحتكرها شركات الأدوية في الدول المتقدمة. وسيكون هذا مصير كل من يتخلف.
حينئذ لن تنفعنا شهادات الأيزو ووثائق الاعتماد الأكاديمي التي نلهث وراءها هدفا نحققه، وصنما نعبده، وليس معيارا نقيس به مستوى أدائنا. ولن يجدي نفعا موقعنا البارز في الترتيب العالمي لشبكات الإنترت. اشترينا منهم الجهاز والبرنامج وربما تعاقدنا معهم على التشغيل والصيانة، وأنفقنا مئات الملايين، حتى خرجت مواقعنا كالدمية، جميلة بلا حراك، وحققنا بفضل جمالها وألوانها الزاهية مواقع متقدمة في الترتيب العالمي ... ونزعم أن ذلك نجاح نحتفل به ونتقبل عليه التهاني. ونفخر أننا أنجزنا ذلك في أشهر وقفزنا من المؤخرة، كل ذلك ونحن في مكاتبنا لم تتسخ أيدينا ولم نتصبب عرقا. لماذا لا ندعم الأبحاث العلمية بهذه السرعة ونصلح البيروقراطية العتيقة، التي تتطلب سنوات لدعم دراسة، تتلف خلالها الفكرة، ويفتر معها الحماس؟ لماذا لا نحاسب المسؤولين في الجامعات على مخرجات مؤسساتهم؟
نحن في مراكز التميز البحثي، وبالأهداف الأفلاطونية التي وضعناها، إنما نقفز على الزانة وليس معنا العصا نعتمد عليها. سنسقط قبل أن نبلغ - وناهيك عن الإبداع. لا يمكن لواحد منا أن يتميز في تخصص إلا بعد جهد شاق وعمل دؤوب في بيئة مناسبة، يرتقي من خلالها سلم المعارف. فالنجاح إنما يتطلب العمل، في وجود الدعم ووفرة الإمكانات، ويحتاج قبل كل شيء، إلى حرفية ماهرة ونزاهة وشفافية في إدارة البحث العلمي.
تشعر أن كثيرا من مراكز التميز في الجامعات إنما أنشئت للدعاية وتلميع الصورة وترقيع الخروق، لا تخدم العلوم بالقدر اللذين يتناسب وحجم الدعم ومقدار الاهتمام اللذين يوليهما ولي الأمر، إلا ما ندر. كلها مؤتمرات وندوات – لقاءات واجتماعات، تمتد فيها موائد البوفيهات، وتتمخض عنها قرارات وتوصيات، ثم تذهب أخيرا إلى حيث ينبغي لها أن تكون.
لقد حرص خادم الحرمين الشريفين يحفظه الله، على دعم العلوم. أنشأ الجامعات ومراكز البحوث، وأنفق عليهما المليارات بسخاء، ولا أظن إلا أنه ينتظر منا ومن المؤسسات التعليمية ومراكز البحث القيام بواجباتها، وقطف الثمار. فهل نحن أهل للثقة؟
على حالنا في جامعاتنا ومراكز التميز، لن يكون هناك عمل ولا إنتاج ولن نقطف ثمارا، إلا أن ندع الاهتمام بالقشور التي ملكت ألبابنا، ونصرف الجهد في العمل الحقيقي. سنبقى أبدا في المؤخرة ما دمنا نلتقط ما يخلفونه وراءهم.