في مقالي الأسبوع الفائت (ما حصل "للشايع" أمر شائع)، تناولت قصة الشاب أحمد الشائع الملقب بـ"الانتحاري الحي"، الذي فشل في تنفيذ عملية انتحارية في منطقة سكنية في بغداد، ونجا من الموت بأعجوبة، بعد أن التهمت النيران كامل جسده، ونقل إلى السعودية بطائرة إخلاء طبي، وتم علاجه ومناصحته، وإطلاق سراحه. الشاب أحمد فاجأ عائلته بظهوره يحمل رشاش كلاشنكوف وآثار الحروق ظاهرة على وجهه ويديه، في سورية، حيث انخرط في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، أحد فروع تنظيم القاعدة.
أحمد وبعد المصائب التي حلت به في العراق ذهب للجهاد في سورية، راجيا من الله بن يكرمه هذه المرة بالشهادة ويحظى بالنعيم وحور العين. أحمد مثال حي على هبة شبابنا، "بالجملة والمفرق"، للمشاركة بأي فتنة تحدث حولنا. وأرجعت جزءا من السبب إلى "العقيدة الريعية" التي اقتبستها من مصطلح "الاقتصاد الريعي" الذي ينتج "العقلية الريعية" التي بدورها تنتج "العقيدة الريعية". والاقتصاد الريعي يعني الاقتصاد المعتمد على مصدر واحد، يأتي من باطن الأرض ويباع ويوزع ثمنه على الناس والمشاريع.
نمط الاقتصاد الريعي ينتج عقلية ريعية، لا تعتمد على الكدح وتطوير الذات في سبيل الإنتاج، وإنما تعتمد الاتكالية على العطايا. وهنا مثلما أنتج النمط الاقتصادي الريعي العقلية الريعية، العقلية الريعية بدورها أنتجت العقيدة الريعية. وسلبية العقيدة الريعية هي السعي للوصول إلى الجنة بغير إنتاج "عمل صالح صادق ومداوم عليه"، إذن فجانب الريعية العقلي لا يمتلك القدرة على الإنتاج المتقن والمتواصل والنزيه في سبيل الكسب والوصول للأهداف النبيلة المباحة في الدنيا، وكذلك جانبها العقدي لا يمتلك القدرة على إنتاج الصلاح والتقوى المتواصلة والورع في سبيل الفوز بمغانم الجنة الموعودة في الآخرة.
فكما أن العقلية الريعية تحث صاحبها على البحث عن الكسب، بدون جهد يذكر، وبأسرع وقت ممكن؛ فكذلك العقيدة الريعية، تحث صاحبها على الفوز بالجنة، بدون جهد يبذل وبأسرع وقت يذكر، والاستشهاد أقصر سبيل للوصول لذلك. هذا الكمون العقدي القابع داخل لا وعي صاحب العقيدة الريعية، قد لا يظهر جليا لديه ولا يشعر به؛ ولكن في أجواء الشحن التعبوي الشعبوي والمعتمد على التجييش وأنسنة الذات ووحشنة الخصم أو العدو والنفخ في روح المؤامرة؛ تقفز العقيدة الريعية من حالة الكمون داخله، لحالة التحفز والنشاط خارجه.
والشحن الشعبوي والتعبوي، في مجتمع تسوده العقلية الريعية يأتي نتيجة للخطاب الوعظي المتشدد والمنفر من الآخر والمستنفر ضده، وهذا ما أسميه، بـ"الخطابة الريعية". والخطابة الريعية تأتي من خطبة منبرية، أو كتابة صحفية؛ وعندما تأتيان معا يصبح الخطاب أكثر جنونا لا عقلانية فيه. كانت الكتابة الصحفية دوما تأتي مهدئة ومعقلنة للخطاب المنبري المتكهرب؛ أما في خضم ما يجري في سورية الآن، فقد أصبحت الكتابة الصحفية جناحه الثاني؛ ولذلك "تكهربت" أجواء الشحن لدينا أكثر، وصحت العقيدة الريعية داخل شبابنا، فحلقت بهم خفافا وثقالا وهبوا للقتال هناك.
فأغلب المقالات الصحفية لدينا عما يجري من أحداث مؤسفة في سورية، هي كتابات غير تحليلية وإنما هي تحريضية، قشرية وبائسة، تعتمد على التنفير والاستنفار، وتشوه ما يجري هناك، أكثر مما تنبه عنه. وهذا البؤس القشوري، أتى نتيجة كون الكاتب يجد نفسه مضطرا للكتابة عن حادثة سياسية معقدة، مثل الحروب، متشعبة الأطراف إقليميا ودوليا ومتداخلة المصالح، فلا تسعفه أدواته الكتابية والمعلوماتية والتحليلية لفهم ما يجري هناك، فتظهر أدوات ومفردات خطابه الديني الشعبوي، الذي حفظه أثناء طفولته وصباه، في بيته وفي مدرسته وفي مسجده، وتصبح هي أدواته ومفرداته التي يعتمدها في كتابته عن الحروب. وهنا من دون أن يعي، يبدأ يصرخ صراخا عاطفيا، يردد فيه صدى ما فهمه من خطوط تاريخية عريضة غابرة، للحروب العقدية والطائفية والعرقية، وهذا يأتي على حساب ما طرح نفسه، على أنه كاتب مدني موضوعي منطقي، يحمي العقلانية ويدافع عن المفاهيم العصرية والحداثية.
وأدوات تحليلنا الشعبوية هي التشدد والتحريض والطائفية والنرجسية العرقية وكراهية المغاير وغيرها من أدوات التنفير والتخدير ومجافاة العقل والتفكير. ويتقن هذه الأدوات الوعاظ والدعاة العقديون وأصحاب الأجندات الخاصة، لا الكتاب، حيث الوعاظ والدعاة يمتلكون مفاتيح الخطاب الريعي، أما الكتاب فلا. وعلى هذا الأساس يقع الكتاب فيما أسميه بفخ "الكتابة الريعية" التي تعتمد على دغدغة مشاعر الشارع من خلال التزلف لعقليته الريعية بالشتم واللطم، وترديد نوتته الشعبوية بكل أمانة.
بعض الكتاب منا يخشون الخروج عن الرأي السائد العام، حتى لا توجه إليهم السهام من أحد زملائهم قبل شعبويي الشارع ودعاته ووعاظه، فيبدؤون بحشو مقالاتهم بالشتم واللعن والصراخ والعويل، حيث يمتهنون بدون وعي أسلوب الخطابة الريعية، التي تعد من المحرضات الرئيسية في صحوة العقيدة الريعية من كمونها ودحرجتها من حالة اللا وعي، لحالة الوعي التام بها. وهنا فنحن ككتاب أسهمنا في تحريض الشباب، شئنا أم أبينا، على الذهاب إلى سورية؛ وبنفس الوقت نصرخ عاليا ونحذر من ذهابهم إلى هناك. ليس هذا فقط ولكن بنفس الوقت، نلوم المحرضين من الدعاة وفرسان المنابر الشعبوية وأصحاب الأجندات السياسية الخاصة، لا بل أخذ بعضنا يطالب بمحاسبتهم وكتم أنفاسهم. وهنا يقع الكاتب الريعي في تناقض مع نفسه، إذ إنه يسهم في تحريض الشباب على الخروج، وفي نفس الوقت يطالب بعدم خروجهم، ومعاقبة من يحرضهم على فعل ذلك وكأنه هو بمنأى عن ذلك.
بعض الكتاب منا يكتب بطريقة شعبوية، ويتلمس شعبيته من شعبويته، ولذلك عندما يطرح زميل له رأيا غير شعبوي، فهو ينقض عليه، ويتهمه بعدم الوطنية، تصريحا أو تلميحا. وهذا طبع أفراد الجوقة التي تردد الأهازيج الجماعية، عندما يشعر أحدهم بأن زميله لا يرددها حسب النوتة الشعبوية المطلوية، فهو بسرعة يتهمه بالنشاز والتخريب. نعم هو يخرب، ولكن يخرب عليه شعبويته ويفضح قشوريته لا غير.
أحد الزملاء طرح في مقال له الأسبوع الفائت فكرة تتلخص في السماح لشبابنا بالذهاب للقتال في سورية، ولو عن طريق غض الطرف عنهم. واقترح توجيههم للالتحاق بصفوف جبهة النصرة، لأنها تمثل الاعتدال في تنظيم القاعدة؛ وبمساعدة الشباب وهيئة كبار العلماء، يمكننا احتواء القاعدة في الأخير. وكما ذكر في نهاية مقالة "نعم إنها فكرة مجنونة، ولكن: أليس كل ما يحصل في سورية مجنون؟".
والزميل العزيز يقترح علينا أن ننام في أحضان الثعابين، مع كوننا لا نمتلك قدرة الوعاظ في القراءة عليها، والاستفادة من توزيع سمومها لاحقا، على من نشاء ووقت ما نشاء. هذا التناقض من الزميل مثال على ما أشرت إليه بالخطابة الريعية، المحرضة للعقيدة الريعية والمكرسة لها، والتي يجيدها الوعاظ أكثر، لا الكتاب؛ وعلى هذا الأساس أتهم فكرته هو بالجنون، لا غيره.