بعض المدن ليست أمكنة يعيش فيها الناس ويتكاثرون فحسب، بعض المدن كائنات حية لها جذور وأحضان، بعض المدن أمهات مشفقات رؤومات، بعض المدن عيون مفتوحة على الأمل، وأيد متشبثة بالماضي العريق، بعض المدن صبايا عاشقات مولهات، بعض المدن زخم تاريخي ومكنون ثقافي وطراز إبداعي نادر، لا يعوزك اكتشافه سوى أن تسبر أغوارها وتطوف "منطقة الوسط" فيها لتشتم ريحان المكان وتسمع بمرهف الحس أحاديث الذكريات، وأهازيج الحياة الدافئة المطمئنة.. و"أبها" سيدة المدائن والقرى إحدى تلكم المدن التي يحفل بها التاريخ، وتنتشي بها الأزمنة وتحملها الجبال تاجا، وتسقيها السهول أوردة من جمال. أبها "العسيرية" فتاة في كامل "صبوتها" تلوي الأعناق وتغذي الأرواح جذلا وانتشاء، وتأخذ الألباب حينا حتى يخيل إليك أنها لن تعيدها. الهائمون في حبّ أبها يحبون أن تلبس زينتها لهم لكنهم يتألمون إذا كانت الزينة المشتهاة لا تأتي إلا عبر جروح وأخاديد، وطرقات الحديد وضربات المعاول العملاقة هنا وهناك. "أبها" المدينة الوادعة يمكنها أن تلبس ما تهدى من حلل التمدن والحضارة دون صراخ، هي تقبل هذا، لأنها ليست مدينة من جدران وأسقف وطرقات، إنها كما عرفها بنوها حالة ثقافية قابلة للحوار والاحتواء والانفتاح على كل جديد مفيد، شريطة أن نحترم فيها شغفها بالثوب العسيري و"غرارة" الريحان والبرك، و"طفشتها" المتدلية بين كتفيها، و"نطعها" الساتر لظهرها و"حزامها" الفضّة.. نحترم كل ذلك ولا نقتحمه، وستكون مطواعة باسمة الثغر على الرغم من انكفائها واحمرار خديها تحت وطأة معدات الحضارة الثقيلة التي تهز أركانها، فلا تلبث أن تنهمر الدموع على "ماض تولّى".

الثقافة بناء، ولا بناء دون هدم وتسوية، كما يقول الأصوليون: التخلية قبل التحلية، غير أن بعض الأماكن تموت إذا وخزتها فما بالك لو حاولت انتزاع شرايينها وفتح قلبها المفعم حبا وتعلقا؟ إلا تلكم المدن التي بنيت لتكون بديلا إسمنتيا عن حياة أخرى، فلا يضيرها ما يفعل بها.

كلنا مع التطوير والتغيير، ولن يكون ذلك دون تضحيات لولا أننا نعلم جميعا أن المعالم في كل المدن لها مدلولاتها التاريخية والاجتماعية التي يجب أن نبقيها جيلا إثر جيل، ونعمل على صيانتها وتوريثها للأبناء بكامل حمولتها المعمارية وأبعادها الأخرى، ولعل الناظر في مدن العالم العريقة يشهد مدى الحرص والعناية بتلكم الآثار، خاصة أواسط المدن، حيث وضعت لبنات البناء الأولى لتكون ملاذا بدأت معه ظهورها وتشكلها.