بداية.. يشكر الأستاذ "داود الشريان" على اللقاءات التي اختصر من خلالها الكثير مما قيل وسيقال عن التطرف والفكر الإقصائي. حلقات وضحت طبيعة هذا التفكير الذي عانى منه المجتمع على مدى عقود، بطريقة يفهمها ويستوعبها حتى غير الملم بالمسائل العقدية أو الفكرية أو الاجتماعية، حلقات كان فيها الشريان متحدثا بلسان مواطن بسيط، مجرد مواطن بسيط يريد أن يفهم "لماذا؟" بعيدا عن التنظير، ولسان حاله: ألا يحق لنا أن نتنعم بحياة طبيعية؟

"وليد السناني" كان هو الشخصية الأبرز في تلك اللقاءات، شخصية أثارت الجدل لما حمله من تناقضات بين بساطة الأسلوب وتطرف الأفكار، وفي الحقيقة إن حال السناني في ذلك اللقاء كحال الطفل الذي ذهب ليخبر الضيف الواقف على الباب: أبي قال لي أن أخبرك أنه غير موجود؛ بمعنى أن السناني كان ناقلا للمعلومة لا أكثر، ناقلا صادقا مع نفسه، عفويا في طرح ما يؤمن به، مستقيا أفكاره التي صرح بها من ثقافة تحتوي على الكثير من الإقصاء في نفس المجال أو مجالات أخرى، إنها "ثقافتنا نحن" وعلينا الاعتراف بهذا إن أردنا الإصلاح. وربما لهذا السبب تفاجأنا من طرح السناني لأننا كنا ننتظر منه أن يراوغ ويضلل في طرحه، وبعد المفاجأة تملكنا غضب يشبه غضب ذلك الأب من ابنه الذي لم يراوغ الضيف الواقف على الباب! إننا يجب أن نتخلص من جزئية الإقصاء المزروعة في ثقافتنا، لا أن ننشد المراوغة، فالسناني لم يقم إلا بممارسة الإقصاء بشكل صريح.

الشيء الآخر الذي لفت نظري في لقاء السناني، هو تعاطف البعض معه، حتى المعارضين لأفكاره بشدة قد رأوا فيه إنسانا بسيطا يستحق أن ينال شيئا من العطف والشفقة، ولو بحثنا في مسألة هذا التعاطف فلا بد من العودة – مرة أخرى- إلى أننا مجتمع تخدعه المظاهر، فها نحن نعاود مجددا التصفيق لمن يظهر أمامنا بملامح السكينة والهدوء والاطمئنان - لا يزال المظهر يفعل فينا فعل السحر- نأخذ ابتسامة المتحدث لنبني عليها قناعات راسخة بأنه على الحق!. إننا نتجاهل حقيقة أن المظاهر غالبا تخفي وراءها حقيقة مغايرة، ولإزالة هذه الغشاوة عن الأعين هاهو القرآن الكريم قد كرر وصف من ضل عن الطريق بـ(ويحسبون أنهم مهتدون) وأن يحسب الضال أنه على الحق، فهذا يعني أنه قد كون داخله يقينا وقناعة ثابتة بعدم ضلاله، هذا اليقين وتلك القناعة كفيلان بإكساب الضال شعورا عميقا بالسكينة والطمأنينة، المسألة إذاً نفسية خداعة أكثر من كونها حقيقة، و"المؤمن كيس فطن". إن اعتقاد الإنسان أنه دائما على حق لن يدخله في منطقة الضلال فقط، إنما سيجعله يستلذ ويستمتع بما يمارسه من ضلال، ستجعله يعتقد أن في ضلاله تقرب لله، حينها سيمارس كل إفساد بطمأنينة!

والأخطر في كل المسألة ليس فقط في كون المتطرفين يحسبون أنهم مهتدون، إنما في أن ينخدع المجتمع باقتناع المتطرفين أنهم على حق، لأن هذا الانخداع من شأنه أن يدخل الضلال ضمن ثقافة المجتمع.

لو عدنا للتاريخ سنجد الصحابي علي – كرم الله وجهه - بعد ذهابه لمناصحة الخوارج عاد وأخذ يصفهم بالزهاد العباد، همهم الدين والآخرة، غير أنه – كرم الله وجهه - أدرك أنهم على باطل لأنهم بهذا الزهد والتعبد تحديدا يحسبون أنهم مهتدون، ولو أنه – رضي الله عنه - بعقليات البعض اليوم لخدعته المظاهر فورا، شأن من يتعاطف اليوم مع كل إقصائي يبتسم له، أيضا في حادثة مقتل عثمان بن عفان – رضي الله عنه - هل تساءلنا عن حال قاتله؟ ألم يكن يحسب أنه يحسن صنعا؟ ألم يجعله اعتقاده بإحسان الصنع مرتاح الضمير مطمئنا إلى ما أقدم عليه؟. علينا يا سادة أن نبحث عن الحقيقة خلف كل صورة جميلة، وأن لا ننخدع بالأغلفة البراقة.

(ويحسبون أنهم مهتدون).. إن الدولة فيها جهات متعددة "وزارة خارجية، وزارة داخلية، مجلس وزراء، ديوان ملكي، هيئة كبار علماء" داخل كل جهة يعمل مستشارون ومختصون وخبراء، كل هذه الجهات بكل من يعمل فيها هدفهم هو الحفاظ على المصلحة العليا للدولة، بما في ذلك قرار الاستعانة بالقوات الأجنبية لتحرير الكويت، هذا القرار الذي أخرج المتطرفين للاعتراض بكل إصرار (ويحسبون أنهم مهتدون)، و"يحسبون" في الآية إشارة إلى أن المتطرفين دائما ينظرون للأمور من الزوايا الضيقة، فهم غير قادرين على رؤية الصورة العامة، وجزء من الصورة العامة أن الدولة لو رضخت لآرائهم ربما ما استطاعت فيما بعد أن تؤمن لهم قبل أي أحد آخر، مبالغ تدخل حساباتهم البنكية نهاية كل شهر، بالإضافة إلى قيمة الكتيبات التي كانت تطبع والأشرطة التي تسجل والمحاضرات التي تقام، والكثير الكثير الذي لو لم يتحصلوا عليه لقالوا: يا ليتنا استعنا بالشيطان الرجيم!

في الأخير.. هذا المقال ليس عن السناني كشخص إنما عنه كفكر إقصائي، والشريان حين قدم السناني لم يقدم شخصا مستقلا متفردا بآرائه إنما قدم للجيل الحالي والأجيال القادمة نموذجا من عقليات عرضت جيلا كاملا للخديعة.