المتابع لمراحل المفاوضات التاريخية بشأن إيران وبرنامجها النووي، وما انتهت إليه مؤخراً من اتفاق مشبوه وغامض في تقديري، سيدرك أن هناك تحولات كثيرة ضغطت على كل الجهات المتحاورة، ووجهت مسار المحادثات إلى ناحية ووجهة بعينها، وسيدرك أيضاً أن هناك اتفاقا آخر يبدو أنه عُقد أسفل الطاولة شبه المستديرة، وما الرقصة المفاجئة لوزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي "كاثيرين آشتون" إلا دليلاً على أن هناك ما تم إنجازه تحت تلك الطاولة، والذي ربما كانت بنوده (سرية) لمدة ستة أشهر فقط، ليبدأ التحول إليها عقب تلك الفترة المعلنة كاتفاق ضمني – وهو ما أخشاه كثيرا- وأظن الاتفاق (الآشتوني) الأخير نسبة إلى "كاثرين آشتون" عرابة المفاوضات والاتفاق، ما هو إلا الحقنة المسكنة للاحتجاجات والقلق الذي تبديه دول الخليج تجاه تطورات الأوضاع السلبية بخصوص نشاط برنامج إيران النووي، ومحادثات مجموعة (5+1) وإيران، والذي على ما يبدو أنه قد أخذ أكثر من وقته..

فإيران التي أجادت اللعب على مسرح الأحداث، واستثمرت التغيرات السياسية في منطقة الشرق الأوسط إلى أقصى ما يمكن لتحصل على ما تريد، أو لنقل بعض ما تتمنى، لن تفوت فرصة ثمينة كهذه لتكسب الغرب علانية وعلى رؤوس الأشهاد هذه المرة، وهي التي لعبت لصالحها طويلاً دور الفزاعة في المنطقة، الآن ترى إيران فرصتها تلك حقيقة لا تقبل الجدل، ولا بد من اقتناص كل تفاصيلها بما يحقق أمرين في قناعات الحلفاء الجدد، جديتها في الدخول إلى عالم التحالفات النوعية الجديدة، وتقديم نفسها كواقع جديد يجب التعامل معه بحسب مقتضيات المرحلة الجديدة، وهذا في رأيي كسب سياسي جديد يعبر عن واقعه.

وإيران التي تسابق الزمن في بناء مفاعلاتها النووية وتطويرها، وتساند حلفاءها في شمال المنطقة وجنوبها، وتستأجر الجزر الاستراتيجية هنا وهناك، وتضيق الخناق في مضيق هرمز، قد أرسلت رسالة واضحة إلى دول الغرب، بأنها قادرة على فعل الكثير مما يمكنه أن يؤثر على مصالحها في المنطقة، وأن عليها أن تغير من نظرتها واستراتيجيتها وحلفاءها أيضاً، وأن تلك العقوبات على الرغم من قسوتها إلا أنها لم ولن تقدم إيران على طبق من ذهب إلى الخصوم، حتى وإن بدت منهكة اقتصاديا مؤخراً، لكنها أيضاً تمتلك ما تستطيع التفاوض عليه، وهذه نقطة جوهرية وثمينة في نظري، وليس أدل على ذلك من (الخطوبة السياسية) التي أراها حدثت من خلال الاتفاق المعلن عنه أخيراً.

باختصار لا يمكنني وصف ما تم التوصل إليه وإعلانه إلا باتفاق (إيران آشتون) لا أكثر، وهو في نهايته ليس أكثر من وقفة قصيرة لالتقاط الأنفاس، والترتيب لبداية مرحلة جديدة من العلاقات الغربية الإيرانية ستأخذ طابع العلنية، كما أظن، والفرح العارم الذي ظهرت عليه السيدة (كاثرين آشتون) وعناقها الحار لوزير الخارجية الأميركي (جون كيري) لم يكن ليقنعني بأن الأمر اقتصر على اتفاق ستة أشهر فقط، بل إن ذلك تسبب في دهشتي كثيراً أيضاً!!

وأستغرب أيما استغراب من عدم مطالبة دول الخليج بالدخول في المفاوضات منذ البدء ولو بصفة مراقب، لتكون على الأقل مطلعة على كل الأمور، لأنها المتضرر الأكبر فيما لو حصلت إيران على السلاح النووي، وهو الحلم الذي لن تتنازل عنه بسهولة حتى وإن امتد طريق الوصول إليه عشرات السنين...

وأظن أن دول الخليج الآن يجب أن تبحث عن تحالفات جديدة، تحقق لها مصالحها وتضمن لها إيجاد معادلة قادرة على حفظ التوازن السياسي وميزان القوى، حتى ولو سعت خلف امتلاك السلاح النووي، محور الصراع في المنطقة، ولنقل إن دول الخليج قد تحررت ولو بشكل جزئي صغير جداً من سلطة المعاهدات الغربية، التي نُكثت معظمها بمواثيقها القديمة، وأنه قد حان أن تتحرك جديا وتأكل بيدها ما كانت تعتقد أنه مضمون ودائم، وهذا ليس غريباً في عالم السياسة والمصالح والاستراتيجيات، لأن التفكير الغربي هذه المرة كان مختلفاً في قناعاته ومنطلقاته، ومما ساعده على ذلك تلك النشاطات الإرهابية التي مست المصالح الغربية في المنطقة خلال العقدين الماضيين، والتي كان خلفها غير المنتمين إلى إيران ربما، على الرغم من أن إيران قد آوتهم لفترات طويلة أيضاً، ومماطلة أميركا وبريطانيا في إنهاء الأزمة السورية، والاتفاق الغربي الإيراني الأخير خير شاهد على ذلك، وما هو إلا مقدمة صغيرة لمرحلة قادمة، كما أعتقد، بل كما أجزم.