في حديث مع مسؤول روسي مؤخرا، أدهشتني إشاراته المفعمة بالحنين إلى أيام الاتحاد السوفيتي. وحين أثرتُ موضوع التجاوزات الخطيرة التي حدثت في تلك الحقبة، قال إنها مبالغات يروّج لها الغرب. واستغربتُ حين أنكر حدوث الفظائع الموثقة تاريخيا في عهد جوزيف ستالين خصوصا، مثل المذابح الجماعية و"معسكرات العمل"، والتهجير الجماعي، والمحاكمات الصورية.
وقال المسؤول الروسي، إن معظم الروس الآن يرون أن انهيار الاتحاد السوفيتي كان خطأ كبيرا، وينظرون إلى ميخائل غورباتشوف نظرة ازدراء؛ لأنه كان مسؤولا عن ذلك.
واتضح لي فيما بعد أن إعادة كتابة تاريخ روسيا، هو جزء من سياسة جديدة أعلنها الرئيس بوتين هذا العام، ومن المتوقع أن يكون التاريخ الجديد جاهزا ومضمنا في الكتب الدراسية ابتداء من عام 2014. فقد طلبت الحكومة من "الجمعية التاريخية" في فبراير 2013 أن تراجع كتب التاريخ التي تُدرس في المدارس. ويرأس الجمعية "سيرغي ناريشكين"، رئيس مجلس النواب، وهو أحد قيادي حزب "روسيا المتحدة" الحاكم، وحليف قوي لبوتين.
وإعادة كتابة التاريخ فنّ ربما اخترعه السوفيت، إذ كان من المتبع خلال فترات مختلفة من الحكم السوفيتي إعادة كتابة تاريخ الفترة السابقة؛ بهدف إنهاء تأثير قادتها. وتفنّن ستالين على وجه الخصوص في ذلك، وكان يستخدمه سلاحا في وجه خصومه، ووسيلة لتوجيه الشعب على النحو الذي يراه. وكان معروفا بحرصه على حذف أي إشارة إيجابية لخصومه في كتب التاريخ، ومسحهم من الصور الرسمية، بعد أن يقضى عليهم على أرض الواقع.
ولعلك قرأت صورة كوميدية لتلك الوسائل في كتابي جورج أورويل المشهورين "مزرعة الحيوان" و"1984"، وهي وسائل استمرت بصور مختلفة حتى نهاية الاتحاد السوفيتي في عام 1991.
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، اعتقد الكثيرون أن تلك الفترة قد ولت إلى غير رجعة. ولكنها الآن تبدو في طريقها إلى العودة، ابتداء من تصوير تلك الفترة بصورة إيجابية جديدة، خلافا للتصور الذي كان سائدا في عهدي غورباتشوف ويلتسين، وإحياء الرئيس يلتسين للسلام الوطني السوفيتي، بعد إلغائه فترة، وإعادة العروض العسكرية الكبيرة، وإعادة منح "ميداليات العمل" التي كانت تمنح وقت السوفيت.
وأسعد بوتين بعض كبار السن بتلك الإجراءات، وبقوله مرة إن انهيار الاتحاد السوفيتي كان "أكبر كارثة جيوسياسية وقعت في القرن العشرين،" وهو اعتقاد كرره لي المسؤول الروسي.
ولكن ما يثير القلق أكثر هو إحياء التقليد السوفيتي في "عبادة الشخصية"، والقمع العنيف لأي اختلاف في الرأي. ويشير ممثلو الأقليات القومية في جنوب روسيا، مثل الشيشان، إلى أوجه الشبه بين أسلوب روسيا الآن وأساليب ستالين في التعامل مع الأقليات، حين استخدم القتل والتهجير الجماعيين، وتدمير المدن والقرى على من فيها.
ويبدو أن إعادة كتابة التاريخ، أو مراجعته، في طريقهما إلى العودة كذلك. فالسياسة التي تم تبنيها في فبراير، تقضي بإعداد كتب التاريخ التي "توفق بين وجهات النظر المختلفة حول ماضي روسيا"، وتطلب من المؤرخين إعداد "معايير" لتلك الكتب توفر "صيغة موحدة للنظر إلى الفترات الصعبة في تاريخ روسيا والاتحاد السوفيتي."
وقد قامت الجمعية التاريخية الروسية بإعداد تلك المعايير، ورفعتها للرئيس لإقرارها. وإذا تم إقرارها فستكون أساسا لكتب التاريخ المدرسية التي تستخدم في أنحاء روسيا كافة.
ولكن عددا من المؤرخين المستقلين، داخل روسيا وخارجها، ينتقدون المعايير الجديدة بأنها وضعت من قبل مؤرخين موالين للرئيس، وتشبه من بعض نواحيها المعايير السوفيتية، فقد تؤدي إلى حذف أو تعديل أي تفاصيل أو أحداث لا توافق عليها الحكومة الحالية، ولا تتضمن أي تفاصيل إيجابية عن خصومها.
فعلى سبيل المثال، نُسب إلى "فلاديمير ريزكوف"، وهو مؤرخ روسي وعضو سابق في البرلمان، قوله "لقد كانت التعليماتُ سياسية واضحة، بتبرير ما تقوم به السلطة الحاكمة، وبيان أن كل ما تقوم به هو عين الصواب".
ويخشى آخرون أن المشروع قد يهدف إلى إحياء فكرة قديمة مفادها أن "روسيا تحتاج إلى حكام أقوياء متفردين بالحكم"، ربما لتبرير استمرار بوتين في الحكم. ويشيرون إلى حقيقة أنه وصل إلى السلطة في عام 2000، وظل فيها حتى الآن، بين منصبي الرئيس ورئيس الوزراء. وانتخب لفترة ثالثة في مايو 2012، تنتهي في 2018، ولا يُظهر أي نية للتقاعد بعد ذلك.
وترفض الحكومة الروسية تلك التهم، وأنكرت أي محاولة لإعادة كتابة التاريخ وفق أجندات سياسية. وقال الناطق باسم الكريملين إن روسيا "تقف باستمرار ضد أي محاولات لتزوير التاريخ". ولعلك تلاحظ أن للعبارة الأخيرة معاني متعددة، فيمكن أن تكون إشارة إلى محاولات المؤرخين المستقلين توثيق تاريخ روسيا السوفيتية، والفترة السابقة واللاحقة، ونشر الحقائق التي بدأ يطلع عليها المواطنون الروس لأول مرة في الفترة الأخيرة.
ومما يثير التساؤل أن الجمعية التاريخية حددت في تقريرها عشرين "موضوعا صعبا" رفعتها للرئيس بوتين للبتّ فيها، تشمل معالجة فترة حكم ستالين والظروف المحيطة بانهيار الاتحاد السوفيتي، ومواضيع تتعلق بفترة حكم بوتين. وقال الأمين التنفيذي للجمعية "أندريه بتروف": "حددنا المواضيع الصعبة التي يجب أن تعالج بذكر وجهات النظر المختلفة بشأنها، وإلا فإننا سنكون متهمين بالكذب على أطفالنا". ولكن هل سيقبل الكريملين بذلك؟
كما نذكر، حاول بوريس يلتسين، أول رئيس لروسيا بعد الاتحاد السوفيتي، كشف بعض الحقائق عن تلك الفترة، ولكن المواطن العادي لم يبدأ في معرفة الصورة الكاملة إلا مؤخرا. وكانت ردود الفعل مختلفة، بين من ينكر تلك الحقائق، وبين من يعترف بها ويحاول التعايش مع الأخطاء، مثلما يفتخر بالإنجازات التي تم تحقيقها وقت الاتحاد السوفيتي.
وربما كان هدف المحاولة الجديدة لإعادة كتابة التاريخ، إنهاء فترة البحث عن حقيقة ما حدث خلال الحكم السوفيتي، وقبله في الإمبراطورية الروسية، وما حدث بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، وإعداد تاريخ يشمل الأحداث الإيجابية فقط. إضافة إلى الأهداف السياسية القريبة بتحسين صورة الرئيس بوتين، ستستهوي إعادة كتابة التاريخ القوميين المتطرفين، الذين يعيشون على الماضي ويتباكون عليه، لتبرير نظرتهم الضيقة للمسقبل.