هنا في أحد المولات التجارية التي يشار لها بالبنان، في منتصف شارع التحلية الشهير بجدة، يجذبك منظر لا يمكنك الالتفات عنه أو حتى تجاهله.. بسطة صغيرة في عمق المركز التجاري، يتربع خلفها رجل بلغ من العمر عتيا (74 عاماًَ)، ولا يزال نفس العمل يجري في عروقه، سبحته لا تفارق أنامل يديه مطلقاً، وملامح جبينه المتجعد، التي يمكن أن تقول عنها إنها تحمل "إرثاً تاريخياً" طوال أكثر من خمسة عقود ونيف.
في رمضان تعد الأسواق والمراكز التجارية لها الريادة في نظر الناس، إلا أن الحاج محمد عبده أو كما يحب أن يكنى بـ "أبو يوسف"، ينافس ريادتها، بهدوئه وسكينته التي يتسم بها، وبمسابحه أيضاً التي ينشط بيعها بين عامة أفراد المجتمع. فحينما تدخل بوابة المول ترى في أعين الناس تساؤلات كثيرة تطفو على السطح: من هو هذا الرجل؟ ولماذا هذا المكان الذي يجاور أشهر محلات الماركات العالمية؟ ولماذا اختار أن يبيع السبح؟
من يدخل إلى المول سواء اشترى بغيته أم لم يشتر، تجده يمر على "أبو يوسف"، إما مروراً حسياً بالشراء منه، أو عبر نظرات الإعجاب والتقدير لهذا الرجل السبعيني الذي امتهن بيع "السبح"، وبعض الأمور التقليدية التراثية كـ"اللبان الشامي"، إلا أن بيع السبح يعد المنشط الرئيسي التجاري للحاج محمد الذي يقطن مسكنه في حارة المظلوم، إحدى الحارات الرئيسية الأربع التي شكلت تاريخ جدة القديمة (قبل هدم السور في 1947). في رمضان تحديداً تتحول بسطة أبو يوسف، إلى ما يشبه، منطقة جذب للناس، وتلاحقه كاميرات التصوير من الصغار والكبار، البنات والفتيان، كحالة مصوري صحافة المشاهير( أو باباراتزي بالإيطالية)، فوجوده وامتهانه بيع السبح "التقليدية والبسيطة" وغير المكلفة جعلاه منافساً في السمعة لمحلات الماركات العالمية.
لشهرته تستطيع أن تشاهد صورته في بنر إعلامي كبير على طريق مكة المكرمة – جدة، حيث لجأت له شركة إعلانية خاصة، رأت فيه وجهاً يحمل كاريزما إعلامية، والطريف حينما تسأله عن جوهر الإعلان ومحتواه، يجيبك بشكل عفوي وبسيط " والله يا ابني لا أعرف، بس هم كانوا طيبين".
العاملون والعاملات في المركز التجاري يحبونه ويقدرونه، وبل ويعتبرونه "بركة المكان"، كما يقول أحدهم، ويضيف:" أبو يوسف بملامح وجهه وبيع السبح يضفي على المكان وخاصة في رمضان أجواء جميلة، نحن نحتاج لها"، إحدى العاملات في المركز التي مضى على عملها قرابة التسعة أشهر تقول:" كنت متخوفة من النزول للعمل، لكن ما إن رأيت أبانا محمد وبسطته وسبحته، حتى شعرت بارتياح كبير، في هذا المكان". 15 عاماً قضاها أبو يوسف في بيع السبح بهذا المكان، ولا يزال يتذكر مراحله الأولى، التي نقلت بسطته من خارج المول إلى داخل المول، كان لهذا قصة يحكيها باستمرار لكل من يسأله، تتلخص في أن فرق البلدية الميدانية كانت تضايقه لأن بسطته غير نظامية، وعاش معهم الكر والفر، وفي أحد الأيام صادف التفتيشات البلدية، وجود صاحب المول الذي تدخل ونقله إلى داخل المول التجاري، وصمم له بسطته على حسابه الخاص، دون أخذ إيجار منه.. يتذكر ذلك أبو يوسف جيداً، ويختم له بالدعوات أن يبارك الله له على الدوام.