لست في هذا المقال بصدد الحديث عن شخص وليد السناني الذي ظهر في برنامج الثامنة مع الإعلامي داوود الشريان، ولكن المهم عندي هو طريقة التناول للمسائل الشرعية والمنهجية التي توقع كثيراً من الشباب في "الانحراف الفكري" الذي يؤدي في النهاية إلى أعمال العنف والتكفير والقتال والتفجير.
إن المسائل التي تناولها السناني في البرنامج ليست خاصة به، بل هي سمة عامة في كل التيار الذي ينتهج منهج التكفير والتي تنبئ عن "غياب المنهجية العلمية والشرعية"، والبعد الأكاديمي الذي ينظم الذهن في تصور المسائل من أصولها، ومن ثم الاستقامة في إيقاعها على الأحوال والأشخاص والأحداث.
وقد كانت عندي قناعة أن جزءاً كبيراً من مشكلة "الغلو" في الدين هي في أصلها علمية منهجية تتعلق بالانحراف في فهم النص الشرعي وكلام أهل العلم وفهمه على غير وجهه، ابتداء من الخوارج ومروراً بكثير من التيارات الغالية التي انحرفت في فهمها عن المنهج الشرعي الصحيح والمبني على قواعد العقل والنقل ومسائل النظر والاستدلال الشرعي، ولعلي هنا أقف مع قضية واحدة وهي:
استدلاله بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في قضية "التترس" على جواز التفجير والقتل في "مجمع العليا"، وأن صورة ما وقع في المجمع هي نفسها الصورة التي ذكرها ابن تيمية، وهذا هو نص شيخ الإسلام ابن تيمية بحرفه لنقارن بينه وبين فهم السناني واتكائه عليه في تأصيل وتشريع قضية خطيرة جداً ذهب ضحيتها معصومو الدم من المسلمين والمستأمنين، حيث قال: (قد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا بمن عندهم من أسرى المسلمين وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا، فإنهم يقاتلون وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم)، فهذا النص يحمل عدة مسائل:
1- أن ابن تيمية يتحدث عن صورة في زمنه وزمن الفقهاء حول قضية خاصة يكون فيها "جيشان"؛ جيش إسلامي في مقابل جيش العدو، ثم إن العدو يأخذون بعض المسلمين يتترسون بهم من الأسارى، ويكون مقصد العدو منع المسلمين من رميهم ويتقدمون إلى المسلمين.
2- أن الصورة تحكي تمايز المسلمين عن غير المسلمين، فهما جبهتان مختلفتان ومتمايزتان.
3- أن المسألة مصلحية تقديرية، بحيث يقرر المسلمون أنهم إن لم يرموا الأعداء سيتضررون ضرراً بالغاً، والكفار يستخدمون التروس لمنعهم من ذلك، فأجازوا جواز رميهم حتى لو كان فيهم مسلمون حفظاً لمصلحة الأمة العليا.
4- أنه إن لم يخف الضرر على المسلمين فلا يرمون حفظاً لمهج المسلمين، وقد قال ابن قدامة في هذا: (إنْ تَتَرَّسُوا بمسلمٍ، ولم تَدْعُ حاجةٌ إلى رميهم؛ لكون الحرب غيرَ قائمة، أو لا مكان للقدرة عليهم بدونه، أو للأمن من شَرِّهِم لم يَجُزْ رميهم، فإنْ رماهم فأصاب مسلماً فعليه ضمانُهُ، وإن دعت الحاجة إلى رَمْيِهِم للخوف على المسلمين جاز رميهم؛ لأنها حالةُ ضرورة، ويَقْصِدُ الكفار، وإن لم يَخَفْ على المسلمين، لكن لم يقدر عليهم إلا بالرمي، قال الأوزاعي والليث: لا يجوز رميهم).
إننا إن رأينا هذا التأصيل للقضية عند الفقهاء وكيف يفهمها السناني ثم يبيح من خلال كلام ابن تيمية أن يُقتل معاهدون ومستأمنون داخل أرض إسلامية، يسكنون في مجمع الأكثرية فيه من المسلمين، وليسوا من أهل "الحرب"، وليسوا في جبهة مواجهة بين جيشين مسلم وغير مسلم، ثم يأخذ هذا الكلام ليؤصل به مثل تلك الأفعال لينبئ عن مشكلة كبيرة، وغلو في الدين، وجرأة على الدماء، وإغراء للشباب بأفعال شنيعة -كما حدث- وخاصة حين يرون حشد النصوص التي يتكئ عليها هؤلاء، ولا يكون عند الشباب آلية النقض والتفكير والنقد وتصحيح المنهج فإنهم -بلا شك- يفتحون لهم باب فتنة كبيرة يروح فيها أبرياء ومعصومو الدم، ويثيرون في المجتمع الفتن والاستهانة بالقتل والقتال المحرم إجماعاً، ويقدم هذا على أنه هو الشريعة الخالدة الماضية، وأن هذا نوع من الجهاد الشرعي الذي هو أعظم الأعمال، وما يحدث جراء ذلك من تشويه صورة الدين، وتوظيف نصوص الشرع وكلام العلماء لمناهج سياسية قتالية تصب في محصلتها في خانة أعداء الدين الذين يفرحون بمثل هذه التشوهات المنهجية التي من خلالها يفلحون في تشويه الدين وابتعاد الناس عنه.
لقد أطلت الكلام في هذه القضية خاصة حتى أضرب مثالاً واحداً فقط، -وإلا فالحلقة مليئة بالأغلوطات والأخطاء المنهجية الكبيرة- يقاس عليه مئات القضايا الأخرى التي يقع فيها أمثال هؤلاء، فترحيل المفاهيم من واقع غير واقعها، وعدم فهم العلماء في ظروفه ومراداتهم به، وإبداء الثبات في مسائل خاطئة في أصلها، وإيقاع الأحكام على المعينين بلا توفر أدنى الشروط الضرورية لذلك شرعاً، وإظهار امتلاك الحق والحقيقة والحكم على الناس بالكفر والضلال بصورة تفتن الناس عن المنهج السليم، مع ما يصاحب ذلك من شد العضد من بعض الدكاترة والدعاة الذين يرمزون مثل من يعبث بالمنهج بهذه الطريقة لا بد أن يكون ضحيتها شاباً متحمساً وعنده عاطفة جياشة يستغل من قبل هؤلاء لإغرائه ببعض الأفعال المشينة التي هي مرفوضة شرعاً وعقلاً.
إن انشغال العلماء وطلاب العلم في تصحيح مناهج النظر والاستدلال، ونقض الشبهات التي يتذرع بها هؤلاء، وعقد المقارنات بين تبريرات هؤلاء وبين فهم العلماء وأقوالهم سوف يحد من الحالة العبثية التي يتخذها هؤلاء لتسويغ الانحراف والضلالة في المنهج، وهو جهد يحتاج إلى جلد وصبر ومصابرة، وإدراك لخطورة الانحراف في مناهج "التفكير"، فإصلاحها بلا شك هو نوع من الجهاد الكبير لأنه يحفظ رونق الدين وصفاءه من عبث العابثين به، ويقدمه كما أراده الله تعالى رحمة وهدى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، ويقطع الطريق على أولئك الذين يريدون تشويه الدين من خلال انحراف اتباعه وشططهم عن الصراط المستقيم.
إنني على يقين أن وليد السناني ما هو إلا ضحية لمثل هذه الانحرافات في المنهج، وصاحَبَ ذلك وثوقية في الذات أدت به إلى عدم التأمل فيما يتبنى من آراء، مع قلة الناصحين لمن يثق بهم من أصحابه، والضعف في التأصيل المنهجي الأكاديمي لمسائل الفقه والعقيدة، وخاصة فيما يتعلق بمسائل الأسماء والأحكام، هداه الله إلى سواء صراطه المستقيم، وجنبنا وإياه مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.