بقدر ما كان صادما لي ولكثيرين استمعوا وقرؤوا ما صدع به عضو مجلس الشورى السابق الصديق عبدالوهاب آل مجثل، وهو يدعو لإنزال أقسى العقوبات بالمجرمين ومثيري الشغب من الجالية الإثيوبية؛ بقدر ما لقيت دعوته تأييدا عريضا من شرائح متعددة في المجتمع السعودي.
موقع "سبق" نشر التصريح، وفي خلال ساعة واحدة وصلت القراءات لستين ألف قارئ، وطالعت تعليقات القراء، فألفيت أغلبها تؤيده، وتطالب بما طالب به وأكثر. والحقيقة أنها فجيعة بكل المقاييس، وكنت أردد أن ما قاله الصديق آل مجثل بصراحته المتناهية؛ ربما كان سبق لسان، إلا أن التأييد العريض الذي لقيته مداخلته من قبل كثيرين؛ أصابني بتلك الفجيعة والصدمة.
أستاذنا الكبير د. فهد العرابي الحارثي علق على أمثال هذه المواقف، بأن لدى السعوديين "شوفينية" مقيتة، ويرى أن هذا التعالي والنرجسية التي يتصف بها بعضنا تجاه إخوتنا الوافدين، يعودان وبالا علينا وعلى صورتنا أمام العالم. وللأسف تعرض هو الآخر لحملة تشكيك في وطنيته، عبر موقعه في "تويتر"، واتهم أنه يكتب ضد الوطن، بسبب بعض آرائه حيال إفرازات الحملة ضد مخالفي الإقامة، وهذا التعاطي الأمني المبالغ فيه بما يراه.
بل حتى بعض زملائنا الكتاب، ذهبوا لأبعد من ذلك في تحشيد الرأي العام ضد إخوتنا الوافدين، وخصوصا الجالية الإثيوبية، وشنعوا عليهم، ووصفوهم بأسوأ الصفات، دون تمييز وفرز، بين الصالح منهم والطالح، بل جعلوهم في مرتبة واحدة، وأطلقوا أحكامهم التعميمية الظالمة، وهو ما يتناقض مع دور المثقف الحقيقي الذي يربأ بنفسه أن يركب الموجة الشعبية، ويجدف مع هتافات التهريج والمصفقين، مسايرة مع الموجة العارمة، بل كان المفترض فيهم الكتابة بموضوعية وعلمية وإنصاف، والقيام بأدوارهم الخليقة بهم في توعية المجتمع، وإقرار النظام، وإشاعة قيمنا التي نحمل، والروح الإنسانية التي يجب أن نتعامل بها.
ما قرأته ورأيته آلمني بحقّ، وكنت أردد: "لا والله، ليست هذه أصالتنا التي تربينا عليها، ولا أخلاقنا التي رأيناها في آبائنا وأجدادنا، وهم يكرمون الغريب، ويصفحون عن المخطئين من الضعفاء، ويتجاوزون – وهم القادرون- عن بعض الخطأ". ولا أنسى أبدا كيف كنا نتعايش مع هذه الجاليات التي وفدت لهذه الأرض المباركة، طلبا لبركة الدين، وسعيا وراء الرزق.
ليست هذه أخلاق المجتمع السعودي، ونحن الذين نصطف في رمضان معهم وقت المغرب، في تلك السفر الطويلة بمساجد الأحياء، لنجلس جنبا لجنب معهم ونفطر، بل نحن من يقوم بصنع الطعام وخدمتهم.. في رصّها وتنظيمها.
نحن الذين نخرج لهم الصدقات، ونباشر الفقراء بالكسوة والطعام، ونفرحهم في صباحات الأعياد، ونعيش الفرح معهم كاملا، لا نتمايز عنهم، بل معظمنا يلعب ويرقص معهم الرقصات الشعبية، في مراكز اللعب المخصصة في الأعياد، وحتى الأعاجم من إخوتنا البنغال والهنود والإندونيسيين؛ ترانا نهلّ بوجوههم ونتباسط معهم، ونبارك لهم العيد.
هذه الأخلاق التي نشأنا وتربينا عليها، وعايشناها واقعا، لا هذه الروح العنصرية التي بدأت تطفح للسطح، وهذه الأصوات "الشوفينية" المتعالية التي تجد من يغذيها من بعض الكتاب للأسف، تجاه إخوتنا الوافدين، وهم يتلبسون روح الوطنية زورا، ليشاركوا في هذه الزفة العنصرية التي نراها اليوم في إعلامنا، ومواقع التواصل الاجتماعي.
هل هذه الكلمات التي أسوق، والأحرف الضاجة بالاحتجاج على ما سمعنا وقرأنا تجاه إخوتنا الوافدين، تقول بإدارة الخد الأيسر لمن صفعنا في الخد الأيمن؛ لا وربّ الكعبة، بل نطالب بالحزم لمن يسيء ويخرج عن النظام والقانون، ولكن هذه المهمة تترك لرجال أمننا الأبطال، فهم الأقدر على التصدي للخارجين عن القانون، لا أن يقوم بعض الشباب المتحمسين بهذه البطولات وشنّ الغارات على مثيري الشغب، ليزيدوا النار اشتعالا بدلا من إطفائها.
حتى لهؤلاء المذنبين منهم حقوق، كفلها الإسلام لهم وكل الشرائع السماوية، وجميع الأنظمة والقوانين العالمية، ومن حقهم أن يوكل لهم محامون، وليست هذه مثالية بما يصمنا البعض، لكنه حقّ لهم أتاحه النظام، وليسمع القاضي سبب لجوئهم لهذا الشغب، ويحكم فيهم، لا نحن الذين نحكم ونطالب بقص آذانهم.
المؤلم في هذا الموضوع، ذلك التعميم الجائر الذي يمارسه بعضنا في إطلاق الأحكام على كل الجالية، وخصوصا ما قرأناه بحق الجالية الإثيوبية. من المحزن فعلا أن نقوم بذلك بحق المسالمين منهم والنساء والأطفال. وها أنا أكرر دعوتي لهيئات التطوع في بلادي، وخطباء وأئمة المساجد الذين نعرف أدوارهم أيام رمضان، وكل جامعات بلادي عبر لجانها الطلابية، أن تقوم بتقديم هدايا ومعونات لأولئك الذين سيتم ترحيلهم، في لفتة إنسانية منا، تعكس الأصالة الحقيقية لبلادنا ومجتمعنا. ولا تنسوا أبدا، أن ملوكهم ضيَّفوا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكرمى لأولئك، لنحتسب الأجر ونساهم في الإحسان، وإغداق الصدقات عليهم.
دعونا – أيها المجتمع- لا نصيخ لهذا التأليب والتجديف تجاه وافدين ضعفاء، دفعهم الفقر لبلادنا، ولنظهر أصالتنا الحقيقية معهم.