"أن نكون أواخر في أوروبا خير من أن نكون أوائل في آسيا"..
هكذا كانت رؤية أبي الأتراك.. ولكن العسكر ومهما بلغوا من السياسة تبقى أخطاؤهم كالندبات في وجه التاريخ. وعى أحفاد "أتاتورك" نتائج التحول جيدا.. تخلصوا من عقدة - الرجل المريض - وأدركوا عقدة أخرى انبثقت منها، تمثلت في التخلي عن عمقهم الشرق أوسطي..
لم يحدثوا قطيعة مع القطيعة، ولم ينقلبوا على رمزهم، فالتاريخ تجارب، وليس عقبات، بل استبطنوا في أنفسهم الثقة بالذات الحضارية: آمنوا بها، وجعلوها العلة الأولى للنهوض، ويبقى عمر تركيا أقدم من عمر زعيمها، وهي لم تنشأ من العدم.. ولكيلا تتحول العلمانية إلى فاشية، ولكيلا تكون مسوغا لإطالة أمد العسكرة السياسية، خرج حزب العدالة والتنمية ليتصدى لأصعب المهمات.. هوية قومية أحدثت قطيعتها مع الروح، قبل أن تكون مع ثقافات الشرق المترنحة.. ودولة ظلت منكفئة على ذاتها حتى نعتها الغرب بـ"دولة الأطراف الممزقة"..
آمن أحمد داود أوغلو أن المشاريع النهضوية في لحظات ما تتطلب أفكارا إبداعية جريئة، وعقليات ناقدة تتسم بالحيوية، وقبل ذلك تتطلب ما هو أهم: "الذات الحضارية..".
درس فلسفة السياسة قبل علومها الأخرى.. وعلم أن السياسة لا ينبغي لها أن تكون عملا واقعيا منفصلا عن الثقافة، بعيدا عن الأخلاق والإيديولوجيا، لا.. بل هي حتما نسيج من ذلك كله..
أرقه هنتينجتون بـ"صدام الحضارات"، وأثاره فوكوياما بـ"نهاية التاريخ"، وهما النظريتان اللتان جعلهما "كيسنجر" وأتباعه واقعا دوليا، لم يتخلص من الصدمة والأرق إلا بعد أن وضع سفره عن "العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية" ليطلق نداءه في أمته ونخبها المثقفة ألا تنطلي عليكم حبائل المكر والتسويغ لاستخدام القوة من أجل حماية المصالح.. نعم هو صدام مصالح وليس صدام حضارات.. هؤلاء الرومان الجدد يريدون إعادة مبدئهم الأول: "القوة تخلق الحق وتحميه"..
وضع نظرياته في "العمق الاستراتيجي" و"التحول الحضاري" قبل أن ينتقل إلى ملعب العلاقات الدولية، وقبل أن يصبح وزيرا علم أنه سيواجه أكبر التحديات في عالم السياسة، وهي على حد تعبيره: "مراعاة (التوازن الدقيق) بين قوة الأمر الواقع، وقوة الحق الأصيل".. والهدف "تصفير المشاكل" مع دول الجوار، ليأتي توماس فريدمان ساخراً وما أسهل السخرية!
ألا تبقى القيم الكبرى مجرد شعارات انتهازية، وأن تتقاطع مع العمل السياسي في الواقع؛ عمل استثنائي، ومعادلة بالغة الصعوبة لم ينجح فيها إلا قلة نادرة من عظماء التاريخ.
قلة تؤمن أن السياسة بطبيعتها المتحولة على الدوام لا يمكن أن تظل فارغة من المضامين الإنسانية.