أدركت الشعوب والزعامات في منطقتنا العربية منذ قرنين من الزمان أن الأمة تعيش مرحلة مظلمة من تاريخها، حيث ينتشر الجهل والتخلف والتأخر في الكثير من مجالات الحياة، وأيقنوا بأن هذه الأمة بحاجة إلى أن تنبعث من جديد علها تجد مكاناً يليق بها تحت الشمس. ومن أجل هذا الانبعاث فهي بحاجة إلى منهج تسير عليه، ومن هنا جاءت الأفكار والتيارات والأحزاب والتنظيمات السياسية القومية والشيوعية والليبرالية والإسلامية بتفرعاتها المختلفة. واليوم وبعد مضي كل هذه العقود مازلنا نلوك الأفكار نفسها تقريبا، ونتحاور أو نتشاجر حول الأسئلة والقضايا ذاتها، ومازلنا نتخبط في حالة من التأخر لا تليق لا بتاريخنا ولا بإمكانيات الأمة البشرية والمادية. أي أن أياً من هذه الأفكار بالشكل الذي تطرحه هذه الأحزاب والتيارات، وليس بالضرورة هذه الأفكار في أصلها، لم تنجح بعد في أن تترجم أفكارها لمشاريع حقيقية على أرض الواقع تلتزم بروحها وجوهرها، وبالتالي لم تنجح في مشروعها النهضوي وبقينا في مكاننا المظلم. والسؤال هو لم لم تنجح؟

هذا السؤال كبير، ويحتاج بحثاً موسعاً يستغرق أشهراً وسنوات، ننظر فيه إلى كل من هذه الأحزاب أو التنظيمات أو التيارات على حدة لنحلل أسباب الإخفاق ومواطن الضعف، آخذين في الحسبان العوامل الخارجية كما الداخلية وتأثيرات التاريخ والجغرافيا والتكنولوجيا أيضاً. إذ إنه يكاد يستحيل أن ينفرد سبب واحد فقط بالمسؤولية. ولكن في هذا المقال سأركز على سبب واحد فقط لمناسبته لما جرى في الساحة المحلية مؤخراً، ولأنني أراه أحد العوامل الأهم في مسيرة التأخر المزدهرة التي نعيشها.

فأصحاب الرسالات وقادة التغيير، وعلى رأسهم الأنبياء والرسل، يحملون في جنباتهم مبادئ يؤمنون يقيناً بأنها عظيمة، ولهذا فهم مستعدون حتى للموت في سبيلها بنفس راضية، وهم في ذلك قد يضطرون للوقوف في وجه أقرب الناس إليهم في سبيل قضاياهم العليا. إيمانهم القوي هذا وتفانيهم هما اللذان يجعلان الناس تصدقهم وتؤمن بهم وتحمل الراية حتى بعد موتهم، وهكذا انتشرت الرسالات، وانتصرت حركات التغيير الاجتماعي أو مسيرات التحرر الوطنية. لكن ماذا كان سيحصل لو أن هؤلاء العظماء رفعوا الشعار الميكافيلي الشهير "الغاية تبرر الوسيلة" في وجه الخصوم؟ هذا للأسف هو الامتحان الذي سقطت فيه التيارات الحديثة وأنبياؤها الجدد عندنا.

ففي الوقت الذي صدع فيه القوميون رؤوسنا عن الوحدة العربية والأمة ذات الرسالة الخالدة وأن العرب كلهم إخوة "وبلاد العرب أوطاني"، فإن الكثيرين منهم ينظرون بدونية للشعوب والدول العربية الأخرى. فهناك دول المركز ودول الأطراف، وهناك دول العلم والثقافة والأدب والتاريخ، وهناك دويلات النفط أو الدويلات الأفريقية الصغيرة التي يغضب أحدهم بشدة لو قارنت بينها وبين إحدى دول المركز لا سيما إذا كانت دولته. وقد سقط هؤلاء جميعاً في امتحان الغزو العراقي للكويت، الذي أيده معظمهم حتى قبل قرار الاستعانة بالقوات الأجنبية، وهذا دليل على ترسخ هذه المبادئ العنصرية الفوقية.

ولا يختلف إخوانهم في التيارات الإسلامية والسلفية عنهم كثيراً، فهم يرفعون المبادئ الإسلامية السمحة، التي تحث على عدم سوء الظن، وعلى المساواة بين الناس، وتنهى عن السباب والشتائم، وإهانة البشر أو تحقيرهم أو السخرية منهم، وتذم التفاخر بالأحساب والأنساب، وتجرم قذف النساء بصفة خاصة. بالإضافة إلى معرفتهم الجيدة بأن هناك أكثر من مدرسة فقهية، وأن اختلاف العلماء رحمة. ولكن هل يطبقون ذلك حقيقة؟ ما إن يختلف هذا التيار مع شخص ما يحمل أفكاراً مخالفة، قد تكون بالفعل مسيئة للإسلام، أو قد تكون مجرد اختلاف مشروع في الرأي، حتى يتعرض إلى سياط أقلامهم الحادة! وهنا سنرى العنصرية بكل أنواعها، على أساس العرق أو اللون أو الجنسية أو الأصل أو الجنس أو حتى الشكل. ولا يكتفي هؤلاء بذلك، بل يمارسون نوعاً من التحريض للسلطة من أجل أن تعاقب هذا الشخص، الذي إذا ما شاء حظه العاثر ألا يكون سعودياً، بأن يطرد خارج البلاد فهو أجنبي! مع أن هذه الكلمة يُفترض ألا تكون موجودة في قاموسهم، فحتى الاسم الرسمي لغير السعوديين هو "مقيمون" وليس "أجانب" فكيف إذا كانوا مسلمين؟! ولعلنا نذكر هنا الحملة على الدكتور خالص جلبي كمثال بسيط، وإلا فهناك أمثلة أشد فظاعة، لا سيما في التعامل مع المرأة.

أما التيار الليبرالي والذي يصور نفسه على أنه واسع الأفق، ومنفتح على كل الأفكار الأخرى، وهو رافع شعار "الرأي والرأي الآخر" والحرية الشخصية والتعددية والديموقراطية، وهم يعطون الآخرين دروساً في حقوق الإنسان ومبادئها العالمية التي تنص على أن البشر سواسية، وهو قد يقبل الجلوس على طاولة واحدة مع ألد أعداء الأمة بحجة الاستماع إلى وجهة النظر الأخرى، والبحث عن الحقيقة أينما كانت، فإنه ما إن يوضع في الاختبار حتى يفشل بشكل مخزٍ. فالكثير من رموز وأبناء هذا التيار لا يطيقون رؤية امرأة منقبة، وهم يباركون أي قرارات تصدر لمنع امرأة من ممارسة حريتها الشخصية في ذلك، ويغضبون إذا أسفرت انتخابات ما عن فوز خصومهم رغم كون هذا - شئنا أم أبينا- رأي الأغلبية، وهم أيضاً يمارسون العنصرية والتحريض ليس فقط على أساس فكري وإنما على أساس عنصري تماماً كخصومهم الذين طالما أنكروا عليهم أساليبهم الهمجية. وأعتقد أن أقرب مثال لذلك هو الهجمة على الشيخ المنجد ومعايرته بأنه أجنبي، مع أنه خريج المدرسة السلفية السعودية بامتياز، وهذا الأجنبي يفترض أن يسكت ولا يعبر عن آرائه، فالحرية للمواطنين فقط.

المبادئ لا تتجزأ، والقيم لا يساوم عليها في سوق مزاد حسب الرغبة، فإما أن تؤمن أو لا تؤمن، أن تقبل بكل شروط اللعبة وقوانينها أو لا تقبل، لا أن تعدلها حسب الرغبة. ولهذا فلن تكون الغلبة لأي من هذه التيارات، وسيتعطل مشروع الأمة النهضوي حتى يأتي رجال ونساء يمارسون فعلياً ما يبشرون به.