نشرت جريدة الحياة في عددها الصادر يوم الثلاثاء الفائت، تحقيقا صحفيا عن قصة الشاب أحمد بن عبدالله الشايع، والملقب بـ"الانتحاري الحي". وقصة الشاب أحمد هي أنه في عام 2005م، تسلل هو وثلة من الشباب معه للعراق، بحجة المشاركة في الجهاد هناك، ضد القوات الأميركية المحتلة، لينضموا لصفوف شبابنا المقاتلين هناك، تحت راية تنظيم القاعدة. في حزيران من نفس العام الذي وصل فيه أحمد، قاد صهريجا ملغما بالمتفجرات ليفجره في حي المنصور السكني، في العاصمة العراقية بغداد، وفشل في ذلك، إذ لم يتمكن من التفجير، وإنما تعرض هو نفسه لحروق بليغة، كادت تودي بحياته، بدل أن تودي بحياة سكان الحي والمارة الآمنين.

الشاب أحمد اعتقل، وتم علاجه، وبعد تنسيق من هنا وهناك، تم نقله للسعودية عبر طائرة إخلاء طبية من العراق. حيث تم إكمال علاجه من الحروق، شبه المميتة. وبعد علاجه جسدياً، تم علاجه نفسياً وفكرياً، وأخلي سبيله. قصة "الانتحاري الحي"، أحمد لم تنته عند هذا الحد، فقد غادر الشاب السعودية إلى سورية بحجة الجهاد أيضاً. وانضم لصفوف الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). أي إن صلته بالقاعدة لم تنقطع، وذلك لسهولة تواصله مع قياداتها، وارتباطه بهم مخابراتياً ولوجستياً. هذا برغم ظهوره تائبا على شاشة قناة المجد، عندما كانت الحروق قد التهمت معظم جسده، وأخذ يحذر الشباب من الذهاب إلى العراق، وأنه كان قد غرر به، واستخدم كلغم بشري ملتهب، يقذفه أبو مصعب الزرقاوي أين ما شاء، وكيف ما شاء، وعلى من شاء. والنتيجة، لم يتعظ هو بنفسه، ناهيك عن أن يتعظ به أحد غيره من شبابنا.

ولقد فاجأ أحمد أهله وذويه، وخاصة والده، عندما ظهر في حسابه على التويتر في صورة له وهو يحمل رشاش كلاشنكوف، وقد ظهرت آثار الحروق على يديه ووجهه، وغرد قائلاً: "سبق أن نفذت عملية استشهادية على عهد أبي مصعب الزرقاوي في العراق، وقدر الله علي ألا أستشهد وقتها، وتم أسري، وقد أحسن الله بي إذ أخرجني إلى سورية".

وقد ذكر والد أحمد، عبدالله الشايع لجريدة الحياة، أنه افتقد ابنه بعد عودته مع شقيقه من جدة؛ حيث تلقى اتصالا من ابنه يبلغه فيه بأنه على الحدود السورية، حيث عبر عن شعوره، عند تلقيه الخبر، بأنه نزل عليه مثل الصاعقة. وأكد أنه وعائلته حاولوا نسيان ما فعله ابنهم في خروجه الأول إلى العراق، إلا أن المأساة، كما ذكر، تكررت من جديد. وأكد الوالد المكلوم بابنه، أن ابنه غادر إلى سورية منذ فترة، ولم يلاحظ عليه أية بوادر للتطرف أو نية للخروج على ولي الأمر والمشاركة في ساحات القتال من دون إذن. ووجه الوالد المفجوع رسالة إليه، قائلاً: "ارجع يا ابني إلى بلدك وأسرتك".

الموضوع أكثر من شائك ومعقد، وأبعد من تصور والد أحمد الشايع، أو والد أي شاب ذهب لمواطن الفتنة، ولم يرجع منها، من أفغانستان، قبل ثلاثين عاماً، حتى سورية الآن. عدد من الزملاء الكتاب كتبوا مقالات يتحدثون فيها عن كم من الشباب ذهبوا من أقاربهم أو جيرانهم، أو أهل مدينتهم، للقتال في سورية، وأنا أضم صوتي لأصواتهم؛ أكثر من قريب لي ذهب إلى سورية، منهم من مات، وفتح له عزاء، ومنهم من ينتظر. أصبحت فتنة الجهاد المزعوم تسري في بيوتنا كالطاعون، تقتل من تقتل وتشوه نفسيات من تشوه.

السؤال هو: لماذا يريد شبابنا أن يغادرونا كأهل ووطن، ليموتوا في بلاد الغرباء وفي سبيل الغرباء؟! هل مواطن الفتن خير من وطننا؟ قد يقول قائل، هم يفعلون ذلك من أجل الدين ونصرة الدين. السؤال هو: لماذا لا يعزون الدين وينصرونه، وهم بيننا وفي وطنهم؛ فالأقربون أولى بالمعروف؟ هم يستطيعون ذلك بالعلم النافع والعمل الصالح. وقد يقول قائل، هم ينتصرون للإسلام، السؤال هو: لماذا لا يتعلمون لغات أفريقية ويذهبون للقبائل الوثنية في أفريقيا، ويدعونهم للإسلام، حتى يسلم الملايين على أياديهم، كما فعل التجار الحضارم القدماء، في شرق آسيا، حيث دخل الإسلام، بفضل الله وفضل خلقهم وعلمهم ودينهم وكرمهم ونبلهم، الملايين على أياديهم البيضاء؛ والتي لم تلطخها قطر دم واحدة؟

عندما تسأل شابا، لماذا تذهب لمواطن الفتن، أو لماذا تريد أن تذهب لها؟ سيجيبك: أريد أن أجاهد وأستشهد هناك. أي إن حرصهم، أو معظمهم على الذهاب هو لنيل الشهادة، باعترافهم، وليس إيمانا منهم بعدالة القضية التي جندوا أنفسهم للقتال مع أهلها. ولذلك تُدفع أغلى الأسعار للشاب السعودي الذي يذهب لمواطن الفتن، مقارنة بغيره؛ كونه جاهزا للانتحار، حيث لا يكلفون قياداتهم المزعومة، أي عناء تدريب وإعداد وتسليح وتنظيم ونقل وإيواء وما شابه ذلك من تكاليف. القاعدة وأمثالها لا تملك لا الوقت ولا المال لمثل ذلك.

أنا لن أكرر ما كررناه مراراً وتكراراً، مثل شيوع الخطاب المتشدد والخطاب الطائفي، وكره الآخر، وما شابه ذلك، مع صدقها جميعاً، ولكنني سأحاول البحث عن إجابة أو مقاربة جديدة عن سبب قد يلامس الواقع، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وأطرحه لأول مرة. أعتقد أن السبب في هرولة شبابنا لمواطن الفتن والحروب، للموت فيها كألغام بشرية؛ هو نتاج لما أسميه بـ"الريعية العقدية"، إن صح التعبير.

وقد استنبطت مصطلح الريعية العقدية من المصطلحين "الاقتصاد الريعي" و"العقلية الريعية". والمقصود بالاقتصاد الريعي هو أن يكون المصدر الرئيسي لدخل البلد، ناتجا من مصدر واحد، يخرج من الأرض، كالبترول والمعادن الثمينة. أي لا دخل لذكاء الإنسان أو لجديته في العمل والإنتاج والابتكار، لا في استخراجه ولا في تسويقه.

وهنا تنتج العقلية الريعية، التي تتكل على العطايا والتسلق والتملق. هذا بدوره ينعكس على العقيدة، وخاصة الفلاح في الآخرة. والفلاح في الآخرة يحتاج إلى صلاح وتقوى وعمل جاد متواصل ديني ودنيوي، أي إنتاج للعمل الصالح الدائم والمستمر المؤدي بصاحبه للجنة. وليس لدى صاحب العقيدة الريعية صبر على تقمص العقيدة الإنتاجية؛ ولذلك فهو يبحث عن الفلاح بالآخرة بأسرع الطرق. وأسرع الطرق للفلاح بالجنة، حسب المعتقد الريعي، هو الموت في سبيل الله؛ وهنا يتم البحث عن مواطن الفتن والسعي إليها، بحجة أنها جهاد؛ لخوض غمارها والاستشهاد والفوز سريعاً بالجنة، بما تحتويه من خيرات ونعم وحور عين، وما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولهذا أرجو ألا نكون نحن وشبابنا مصابين بداء العقيدة الريعية، ونحن غافلون. إن كنت أصبت فهذا من ربي، وأن كنت أخطأت فهذا من نفسي والشيطان. والله أعلم.