كانت نهاية أسبوع جميلة بالنسبة إلي، حيث التقيت بصديقات الطفولة، بعد أكثر من خمسة عشر عاما من الفراق، ويعود الفضل في ذلك إلى التكنولوجيا التي أسهمت في تسهيل وسائل التواصل، فأصبح لنا "قروب" في "واتس آب"، احترنا في اسمه، حيث كان في البداية يحمل اسم المدرسة وسنة التخرج، إلى أن أصبح يحمل اسم المدرسة فقط دون السنة؛ وذلك لأسباب نفسية.
ليس هذا هو المهم، المهم ـ هنا ـ أننا التقينا بعد كل هذه السنين في مزرعة في "العمارية"، كان لقاء جميلا أقرب إلى أن يكون لقاء تعارف، وكانت هناك قصص نجاح جميلة، كانت أهمها انتصار إحدانا على شلل نصفي أصابها بابتسامة وثقة بالله، وكانت عائلتها مساندة لها، وبعد كل هذا الجمال الذي طغى على مسامعنا وأبصارنا، هطل علينا خير السماء، وأخذنا بأطراف الأحاديث، ثم سار بنا الكلام إلى موضوع كان مصحوبا بالخوف والحزن والألم، وغيرها من المشاعر التي يتسبب فيها "هادم اللذات ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، ومؤيم الأزواج والزوجات، وقاطع الأعمال الصالحات، المقرب إلى العرصات، المجرع للحسرات، الناقل من البيوت والقصور إلى القبور الموحشات، المفجع للأهل والقرابات...". لا أقصد ـ هنا ـ الموت بل أقصد الفاسد.
نعم، الفاسد الذي ليست لدي أي صفة يمكن أن تطلق عليه، ولا كلام يعبر عن حقيقته أو حتى مشاعر تصف شعوري تجاهه وتجاه فساده. الفاسد الذي حول لقاء جيل بعد غياب إلى رحلة رعب وخوف من كل شيء حتى المطر.
قال تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ).. [البقرة:204-206].
فليس لدي كلام أفضل ولا أصدق من قوله تعالى إلا هذه الرسالة لكم أيها الفاسدون.
"من الخليفة عمر بن عبدالعزيز.. إلى الفاسدين والعابثين:
بعد أن حمد الله وأثنى عليه... أما بعد... فإنكم لم تخلقوا عبثا، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم فيكم والفصل بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله ـ تعالى ـ وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غدا إلا من حذر اليوم الآخر وخافه، وباع فانيا بباق، ونافدا بما لا نفاد له، وقليلا بكثير، وخوفا بأمان. ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيكون من بعدكم للباقين كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله لا يرجع، قد قضى نحبه حتى تغيبوه في صدع من الأرض، في بطن صدع غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحباب وواجه التراب والحساب، فهو مرتهن بعمله، غني عما ترك، فقير لما قدم، فاتقوا الله قبل القضاء، راقبوه قبل نزول الموت بكم، أما إني أقول هذا. ثم وضع طرف ردائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله".