منذ عصور الإغريق، وربما أقدم، والكوميديا إحدى أشهر أنواع الفنون البشرية وأكثرها شعبية وإقبالا جماهيريا، كانت الكوميديا في الأساس عملا مسرحيا يقابل التراجيديا؛ بمعنى أنه لا يتخذ من التعاسة أو النهايات الحزينة ولا المواقف الخطيرة موضوعا له. بقدر ما كان يقدم مادة مسلية وغالبا ذات نهاية سعيدة. تشتغل الكوميديا على المفارقات والغرابة والطرف التي أنجز الإنسان الكثير منها. الكوميديا خرجت من المسرح لترسم تاريخا طويلا في التمثيل التلفزيوني والأعمال السينمائية. من المعلوم اليوم في كل الثقافات أن الأعمال الكوميدية هي صاحبة الجماهيرية الأعلى ولكنها أيضا صاحبة المعادلة الأعقد.
إلى العربية ترجمت الكوميديا إلى (الملهاة) وكان تصور المسرح والتمثيل صعبا على المترجمين الأوائل الذين لم يتصوروا عملية التمثيل، ولذا سموا الممثل بـ "المنافق" باعتبار أنه يقول ما ليس في حقيقته. لن أتحدث هنا عن الخلل الذي تسبب فيه هذا الفهم للتمثيل في الثقافة العربية، بل سأتحدث عن بعض التفسيرات النفسية والفلسفية للضحك والكوميديا ثم سأنتقل للحديث عن أحد الأفلام الكوميدية الناجحة بشكل مدهش مؤخرا. لماذا الضحك جذّاب والكوميديا مسلّية؟ أحد التأويلات ما يعرف بنظرية التفوّق. أي أن الكوميديا والسخرية تشعرنا بتفوقنا على من نسخر منهم أو حتى تفوقنا على حالتنا السابقة حين نسخر من أنفسنا في ظروف معّينة. هذه السخرية تجعلنا نطمئنّ بأننا أحسن حالا. مما يؤيد هذا التفسير شعور الناس بالضيق حينما يسخر منهم أحد وكأن هذا الساخر يعلن تفوقه عليهم أو احتقاره لهم. الساخر بحسب هذه النظرية يقلل من قيمة من وقعت عليه السخرية ويعلن نفسه في مكانة أعلى وأفضل منه. النظرية الثانية تقول إن جاذبية الكوميديا والسخرية نابعة من التفريغ النفسي الذي يشعر به الفرد معها. السخرية تخلّص الفرد من انفعالاته الحادة ومن توتراته التي تنتج عن تجربته في الحياة. بيولوجيا يمكن ملاحظة تأثير واضح على جسم الإنسان مع الضحك والسخرية. هذه النظرية تتحدى السابقة وتحاول أن تقدم تفسيرا لإقبال وحب الناس للكوميديا الساخرة بعيدا عن فرضية التعالي والتفوّق، باعتبار أن الناس غالبا يكرهون المتكبّر ولا يأنسون بالجلوس معه. كذلك الساخر غالبا بسيط ومتواضع. النظرية الثالثة تركّز على بُعد الغرابة والمفارقة في الكوميديا. الكوميديا جذّابة لأنها تشير إلى مفارقات عجيبة؛ الكوميديا مفارقة للواقع الممل وخروج عليه بطريقة مبدعة. الكوميديا أيضا خروج عن الأعراف والتقاليد والمحظورات الاجتماعية مما يجعل الناس يسمعون فيها صوتا طالما انتظروه أو طالما تداولوه في دواخلهم المحظورة من الخروج للعلن. الكوميدي فاضح والناس تستمتع بالفضائح. من الصعب تحديد تفسير واحد للاستمتاع بالكوميديا والضحك. في الأخير الضحك عملية اجتماعية تختلط فيها عوامل كثيرة. الكوميديا تعطينا قوّة هائلة بالسخرية من أشياء كثيرة ربما لا نستطيع مواجهتها بشكل مباشر. هذا الشعور بالقوّة صحي في أجواء يعاني فيها الكثير من ألم الضعف وقلة الحيلة واليأس والإحباط. الكوميديا هنا مساحة للعب بعيدا عن القوانين الصارمة. الجميل في الكوميديا أن قوانينها متعارف عليها من الغالبية. غالب الناس تختلف مواقفهم وتقييماتهم للموقف بناء على السؤال الحاد: هل أنت جاد أم تمزح؟ إن كنت غير جاد فرحابة الصدر أوسع ومساحة التقبّل لرأيك أوسع. هذه الحرية ربما هي سرّ جمال الكوميديا والسخرية والضحك.
بعد هذا العرض النظري، أنتقل إلى كوميديا حيّة، إذ عرض في الصالات بنجاح كبير فيلمThe Hangover في عدة أجزاء. أركّز هنا على الجزء الأول والأكثر نجاحا. الخطوط العريضة لقصة الفيلم كالتالي: أصدقاء حميمون يقررون الاحتفال بصديقهم الذي سيودع العزوبية بعد يومين، يختارون فيجاس للاحتفال وهناك تقع سلسلة من الأحداث المثيرة والمضحكة. يعتمد الفيلم على عملية فلاش باك كبيرة حيث نعلم في بداية الفيلم أن الأصدقاء قد أضاعوا صديقهم وأنهم في حالة مزرية في صحراء نيفادا الواسعة. نعود بعد ذلك لاكتشاف سلسلة الأحداث المتتابعة والغريبة في تلك الليلة. المثير في الفيلم أن الأصدقاء فقدوا ذاكرتهم عن ليلة البارحة الصاخبة. وبدؤوا، وبدأ المشاهد في تفاعل مثير معهم، في محاولة اكتشاف ماذا جرى البارحة عن طريق استنتاجات أحيانا منطقية وأحيانا عبر مصادفات وأحداث مفاجئة. كان من الصادم للأصدقاء أن يستيقظوا فجأة ليجدوا معهم في نفس الجناح في الفندق طفلا رضيعا ونمرا وأحدهم قد فقد إحدى أسنانه، والأهم أن صديقهم العريس غير موجود ولا أحد يعلم أين هو. مفارقة الفيلم تلعب على حالة مفارقة الذاكرة. الحياة بلا ذاكرة مرعبة وغير مفهومة.
لا يوجد في الفيلم نجم كبير، النجومية موزعة على الأصدقاء الأربعة بتناسق جميل. الفيلم كان خارج السياق الهوليودي وعانى الممثلون والمخرج كثيرا من توفير ميزانية ومنتج لفيلمهم الحلم، وفي النهاية أقدموا على المغامرة وأنتجوا الفيلم بأنفسهم واعتمدوا على إمكاناتهم الخاصة مراهنين على جاذبية الكوميديا وقربها من المشاهدين. ومن الواضح الآن أن المغامرة قد نجحت بشكل كبير وأكبر من المتوقع بكثير. من المعلوم عن الأفلام الكوميدية أنها دائما تحمل احتمالات عالية للنجاح والفشل، معادلة الفيلم الكوميدي دقيقة ومعقدة. يمكن أن نقول إنه إما أن ينجح نجاحا مذهلا أو يخسر خسارة مدوية. الكوميديا حالة دقيقة ويتخوف المنتجون كثيرا من إنتاج عمل كوميدي لأسماء غير معروفة بعد ولم تأخذ ضماناتها من الجماهير. كوميديا الفيلم مزيج من كوميديا الموقف وبين الاعتماد على خفة دم الممثلين وارتجالاتهم داخل الفيلم. ومن المؤكد الآن أن المنتجين الكبار يعضون أصابع الندم بعد أن فوتوا فرصة إنتاج هذا الفيلم.