في النسخة التي أهداها إلي الشاعر محمد عبدالله البارقي، من ديوانه الأول: "فينيق الجراح"، كتب مُهدياً: "قلت لي ذات يوم: يمكنك أن تصور التجربة الشعورية العميقة في وزنٍ قصير. مازلت أحاول إتقان الأمر".
وعندما بدأت في قراءة الديوان لم يتغير رأيي الذي قلته له قبل صدور الديوان بأعوام؛ ذلك أن البارقي يعتمد على البحور القصيرة، والمجزوءة، اعتمادا كبيراً، وهي أوزان لا تمنح الشاعر فرصة التعبير، لأنها شبيهة بالزفرة القصيرة التي لا يكاد يرتد معها النفَس، وعلى الرغم من ذلك فإن نصوص البارقي تصل إلى المتلقي بشعورها كله.
الأوزان القصيرة قد لا تكون صالحة للتعبير عن كلّ التجارب، بيد أن البارقي بكثرة مراسه معها، جعلها صالحة وأكثر، وهو ما يعني أن تجربته فريدة في جانبها الموسيقي.
البارقي يغني كثيرا على: "مفاعلتن مفاعلتن فعولن"، ويغني أكثر على: "فاعلاتن فاعلاتن"، لكن البيت الواحد يهبك ما تريد من غنائية وشعور وصورة. فهو حين يقول:
يا نجوم الليل إنّي
حائرٌ وحدي أُغنّي
فأجيبي عن سؤالي
حار تفكيري وظنّي
كيف أفشى الليل سراً
صاغَه حُزْنُ المغنّي
كيف صار اليأسُ غولاً
ينزع الأحلام منّي؟
يُسمِعك ـ وأنت تقرأ ـ أغنية سلسة رقراقة كأنها الغيل منسابا في "وادي خاط".. يُسمِعك أغنية لا تقرؤها بوصفها نصا لغوياً وحسب، بل تغنيها بوصفها أغنية حلوة، تجمع بين: رشاقة الألفاظ، وسلامتها، وتصور شعوراً، فلا تقترب إلى السطح لتكون أهزوجة أو "طقطوقة"، ولا تذهب إلى القاع، فتصير لغةً لا معنى لها إلا في ذهن قائلها، وربما لا معنى لها حتى في ذهنه.
أتخيل أن البارقي حين يكتب قصائده يستحضر الغناء، والغناء فقط؛ هو يغني كما كانت راعيةٌ حسناء تغني خلف شياهها في تهائم أهله، أو كما كان "شايب" من أهل بارق يغني لرفاقه محتبياً بـ"لحافه الفقيهي" وهو يستظل تحت شجرة سدر.
في "فينيق الجراح"، لم أر المكان واضحاً في اللغة، ولا في الصورة، ولا في العنوان، لكنني رأيته رأي القلب في الموسيقى الشعريّة، إذ لم أستطع تخيل تلك الموسيقى السلسة خارج إطار المكان، ولذا كان ارتباط الأوزان القصيرة ـ في خيالاتي أو في أوهامي ـ بالمكان وساكنيه أكثر وضوحا، لأنهم كانوا يغنون ويغنون.. كما يتنفسون ويحبون ويكدحون؛ فالغناء عندهم جزء مهم من الحياة، والبارقي الريفي التهامي امتداد لتلك الحياة بمعنى "حياة".
صدر "فينيق الجراح"، ضمن "سلسلة البواكير" عن نادي أبها الأدبي، بيد أنه ناضج نضجاً فنياً يجعله من "البواكير" التي "بورك لها في بكورها".
فقط، ليت الاستمداد والتوظيف والاستدعاءات الرمزية تكون من المكان تاريخاً وإنساناً، لأن الرموز المجلوبة من الثقافات البعيدة لم تعد مبهرة كما كانت في بدايات التّجديد، والمرحلة تتجه إلى أن تكون القصيدة عالمية من خلال محليتها.