لما كنت طالبا في أميركا، وكنت أزور المكتبة العامة في المدينة يستوقفني كثيرا ركن في المكتبة يتضمن كامل الكشوفات المالية لمختلف الهيئات الحكومية للمدينة، مع كامل المعلومات بأدق التفاصيل في مجلدات ضخمة لكل عام. هذه الكشوفات والتفاصيل متاحة لأي زائر للمكتبة للاطلاع عليها دون أي قيود. كنت دائما أتساءل في نفسي عن التأثير الكبير لو تم تحقيق ذلك لدينا.

لما صدر قرار خادم الحرمين الشريفين بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تبادرت هذه الصورة فورا إلى ذهني. كان قرار التأسيس التزاما عميقا من الدولة ليس فيه ذرة تردد في مكافحة الفساد، فالفساد هو ذلك السوس الذي ينخر في الإنجازات ويدمرها لمصلحة الأفراد الذين قرروا خيانة أوطانهم، ويستحقون شن الحرب عليهم من مؤسسات الدولة وقيادتها العليا.

لو قرأت في مختلف الأدبيات الإدارية لمكافحة الفساد حول العالم لوجدت أن الحل السحري الأمثل لمكافحة الفساد هو بكلمة واحدة "الشفافية". لذلك فإن المقياس العالمي الذي يركز على نسب الفساد ومكافحته في الدول يسمى بمقياس الشفافية. الشفافية هي نشر المعلومات وإتاحتها للجمهور، وهي تسمح للجمهور والمؤسسات الإعلامية بأن تتحول لقوة ضاغطة على الأيدي الفاسدة، وتسمح لهم بأن يقدموا الأسئلة التي يمكن من خلالها تطوير عمل المؤسسات الحكومية بشكل يمنع الفساد.

تخيل بعد حوادث غرق الرياض الأيام الماضية، لو استطاع الجمهور والإعلام وصناع القرار وأعضاء مجلس الشورى وغيرهم من خلال شبكة الإنترنت، أن يعرفوا كل الشركات التي نفذت مشاريع الأنفاق والطرق في الرياض، والجهات الاستشارية التي راقبتها، والمسؤولين الذين صادقوا على دقة توافق المشاريع مع المواصفات المطلوبة وما هي هذه المواصفات، لو كان كل ذلك متاحا للجمهور، لمثّل هذا بحد ذاته عامل ضغط غير عادي على كل الجهات المشاركة في أن تتحرى التنفيذ الصحيح للمشاريع، لأن الجمهور فيه خبراء وإعلاميون ولأن الجمهور عادة لا يرحم.

بالنسبة لي، لما تأسست "نزاهة" كنت أتخيل أن هذا سيكون دورها. لم أكن أتخيل أنها ستقوم بدور الملاحقة والعقاب، لأن الوضع الطبيعي أن تكون هذه مهمة الأجهزة الأمنية التي تملك الإمكانات والتدريب اللازمين لتحقيق ذلك، ولم أتخيل أن يكون دورها القيام بالرقابة على التقارير المالية، لأن هذا الدور الطبيعي لديوان المراقبة العامة، وهو معروف بصرامته وصلاحياته الواسعة، بل كنت أتخيل أن "نزاهة" ستركز بشكل خاص على المبادرات التي تطور الأنظمة والقوانين المتبعة في كافة الهيئات الحكومية لتساعد الأجهزة الأمنية وديوان المراقبة على تحقيق أهدافها، ولتوجد تلك الحلول الإدارية السحرية التي من شأنها تحفيز النزاهة ومحاربة الفساد، وعلى رأسها "الشفافية". التركيز على الشفافية وحده له قيمة عالية جدا لأنه سيرفع من ترتيب المملكة على مقياس الشفافية العالمي، وهذا لا يضمن فقط تحسين الصورة الذهنية للمملكة بما يليق بها كدولة تقود العالم الإسلامي، بل أيضا سيشجع الشركات العالمية على النظر للمملكة كسوق متميز للاستثمار بشكل عام.

قد يظن القارئ أن تحقيق الشفافية أمر سهل، ويتطلب قرارا رسميا فقط، ولا يحتاج وجود كيان كامل وراءه مثل "نزاهة"، وهذا غير صحيح، فقراءة واحد من التقارير أو حضور أحد المؤتمرات يكشف لك عن كم العمل الضخم الذي تحتاجه أي دولة لتحقيق الشفافية في مؤسساتها بشكل يضمن إيجابياتها ويمنع سلبياتها، وهناك أيضا كم هائل من الممارسات العالمية التي تسمح لنا بأن نبدأ من حيث انتهى الناس، دون المرور بالتحديات التي مرت بها الدول والمشكلات أثناء تطبيقها لنظم الشفافية.

هذا لا يعني أن كل مبادرات "نزاهة" ليست إيجابية، فإيجاد مبادرات للتبليغ عن المفسدين، ومكافأتهم وتلقي الشكاوى، ومتابعة ما يكتب في الإعلام والسعي لمعالجته، أمور مميزة ولا يمكن إغفالها، ولكن الأفضل في رأيي لو تم تفعيل كل هذه المبادرات مع الجهات المختصة في الدولة، بحيث تبقى هيئة مكافحة الفساد هيئة تنظيمية وبحثية، وليست هيئة تنفيذية، كما هو الحال الآن.

لا شيء يرعب المفسدين مثل الشمس التي تكشف أسرارهم وتعريهم أمام المجتمع. هذا بالضبط ما أظنه الدور الصحيح لهيئة مكافحة الفساد والذي يمنع ازدواجية المهام مع المؤسسات الأخرى ويقود الأمور إلى طريقها الصحيح..

"الشفافية" هي البديل لمكافحة الفساد..