أعلى الأقصى نبكي أم على الدماء المسفوكة بأيدي أهلها في سورية، أو من ذاك المحتل الذي أقبل عليها يمنة ويسرة لا هم له إلاّ مص دماء شعبها، أم على الأرض التي اعتقدت أن الربيع مر بها تاركا خلفه صراعا داميا حاقدا، لا أرى أنه سيتوقف قبل أن يقسم أهلها فرقا لا تلتقي إلا لتتلاسن بالحق تارة.. وبالافتراء تارات أخرى!
على ماذا نبكي.. أعلى أنفسنا التي نست وتناست شعبا فقيرا اضطهد لأنه قال "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، شعب يربطنا به رابط يفترض أنه أقوى الروابط الإنسانية، شعبٌ البؤس والخذلان والفقر عنوانه، أم على الأقصى الذي يراد تقسيمه تمهيدا لإنهاء وجودنا عليه؟! على ماذا نبكي.. على العالم الذي يجيد الكلام وتنظير الموعظة كإجادته تسويف الحراك العالمي أو تهبيطه، على ماذا نبكي: على من ندرك أن صداقته مرتبطة بمصالحه فقط دون مصالحنا، الصديق الذي لا يجد غضاضة في مصافحة عدونا، والتغاضي عنه ما دام ذلك يحقق مصالحه ورغباته؟
أم نبكي أنفسنا كشعوب إسلامية وعربية تراجعت عن نصرة المظلوم بسبب انشغالها بحياتها اليومية.. فلم تعد فلسطين تعنينا وأتمنى ألا تكون نهاية سورية أو بورما على طريقتها؟
لقد امتهنت شعوبنا الندب والشجب والتنظير.. دروس تعلمناها بجدارة من العم سام وحاشيته، فالمؤتمرات تعقد، والأصوات ترتفع وتنادي، ثم تعاود الكرة هنا أو هناك.. لتكرر نفس العبارات ونفس المقدمات ونفس النتيجة.. صفر على الشمال!
قال لي وهو يتناول قهوة الصباح: لم تتحدثين منذ فترة عن فلسطين.. عن الأقصى! نعم أعترف.. لم أفعل؟ ثم: لم أفعل؟ هل سيغير صوتي من الأمر شيئا؟ هل ستصحو القلوب؟! هل ستتحرك الضمائر؟! أم أنها أدمنت السكون وكأنها مقابر، ثم من أنا ليسمع صوتي أو يتوقف عند كلماتي، ولو فعلت فلن يكون الأمر بالنسبة لي إلا تفريغ شحنات سلبية كتمت أنفاسي.
لقد تشتت قوانا هنا وهناك، ولم يعد بإمكاننا التحكم برأي حلفائنا ما دامت مصالحهم بين أيدينا، فتلك حامية الحمى بزعمها تسوف وتسوف وتسوف. ويبدو أنها على هذا الطريق إلى ما لا نهاية، وتلك القارة التي نصبت نفسها قاضيا حركت رأسها موافقة ثم نامت نوم أهل الكهف! أعتقد أنه لا بأس أن نعطي بيد، ولكن على أن نأخذ باليد الأخرى، فمصر على سبيل المثال تتغزل بنا على المنابر ثم تعارض سعينا لوقف الصراع السوري عسكريا استجابة لمطالبات سورية ملحة ظهرت مؤخرا.. تفعل ذلك وهي ترى ما فعلت وتفعل قوات الأسد بالأبرياء، ولا أكتمكم سرا أني أحمد المولى الكريم أن الحكومة المصرية الحالية لم تكن إبان احتلال صدام للكويت!
قالت لي إحداهن "ليتك تغيرين القناة.. إذ لا أريد سماع المزيد، فليس بأيدينا ما نفعله، ثم لم ننغص حياتنا بمرض مزمن ورثناه عن آبائنا، مرض لا علاج يجدي معه، فلم نتوقف عنده بالبحث والمداولة، المسكنات هي الحل الأوحد، المسكنات زدنا جرعاتها ليقل مفعولها، ونخشى أن نمارس بعدها الهذيان.. هناك مواضيع أهم بكثير من معضلات عجز جيلكم عن حلها فأردتم ابتلاءنا بها، نحن جيل نريد الحراك والحراك ممنوع فلتكن كلماتكم ممنوعة".
ثم لماذا لم يتحرك عندما أقدمت إيران بالتعاون مع حزبها في لبنان على احتلال سورية.. لماذا لم يتحرك وهو يرى أفظع إبادة إنسانية في عصرنا تتم في بورما، ولماذا يشعرني ذلك أنه ليس من المحال أن يتركنا هذا العالم نغرق لو حاول أحدهم إيذاءنا، ولماذا تذكرني هذه الهواجس باتفاق (سايس بيكو)، حيث تم الاتفاق خلف الجداران بخلاف ما طبق في العلن.. إن كل ما أتطلع إليه منكم هو ألا نربي ذئبا في بيتنا، فما ندري ما ستؤول إليه أحوالنا معه غدا.
هذا حديث اعتدت سماعه واعتدت ألا أسترسل فيه.. لا ترفعا عنه، ولكن عجزا عن البيان، فكيف لي أن أرد حقائق ظهرت للعيان، وكيف لي أن أعلن موقفا معارضا لما طرحت.. فلو حاولت أن أفعل فسأكون كمن كذب على نفسه قبل غيره، لو فعلت فسأجعل من نفسي ندرة يتناقلها التاريخ وتتضاحك عليها الأجيال.
في مثل هذه الأحوال أفضل الانشغال بأمور ثانوية عن الدخول في جدال لن يؤدي إلا للمزيد من الخذلان النفسي، فلا أنا قادرة، ولا من تجالسني قادرة، ولا الإرادة الدولية لديها الرغبة لترى وتسمع وتتكلم ولتتحرك باتجاه الحق الإنساني.
أما الدول التي تتحرك هنا وهناك وتناشد العالم لعل ضميره يفيق، فتعلم أن مهمتها ليست بالهينة، وأن نجاحها قد تصل نسبته للاستحالة، تعلم أنها تتحرك في ساحة تكاد تكون فارغة من أي معين إلا الله سبحانه، تعلم أن شعوبها لم تعد تتابع حراكها ولم تعد تصدق وعودها، لأنها تتعامل سياسيا مع عالم أصابه الصمم وبالكاد يرى موقع قدميه..
نحن عندما نلوم الجيل الجديد ونوجه له الكم الهائل من الاتهامات.. فهل نفعل ذلك عن يقين؟! أم دفاعا عن هجوم مشروع يوجه إلينا ممن أدرك نقاط ضعفنا وقلة حيلتنا وتشتت قوانا والاستئذاب على بعضنا البعض؟! أسئلة لا أريد لها إجابة.