كان لا بدّ من هذه الحملة التصحيحية التي تقوم بها وزارة العمل، برغم كل هذه الإفرازات وردات الفعل المؤسفة، التي آمل من العقلاء في الوزارات المعنية إعادة تكييفها بحسب هذه المستجدات التي تجرّ مجتمعنا جرّا لمواجهات أمنية، خصوصا مع العمالة الإثيوبية، وليتنا نعتمد مبدأ "التدرج" والبدء بالأهم فالمهم، كحلّ حتمي نحتاجه اليوم.
جبت إثيوبيا، أو ما نحب نحن تسميتها ببلاد الحبشة، من أقصاها لأقصاها قبل ست سنوات، إبان عملي في صحيفة "عكاظ"، وكتبت تقريرا صحافيا مصورا عنها، نشرته بالصحيفة في سبع حلقات، وأبحرت في تاريخ تلك البلاد، وأنا أرى آثار المسلمين هناك، منذ الصدر الأول، ولا أنسى زيارتي -بغرض التوثيق الصحفي- لضريح النجاشي، وثلة الصحابة الذين دفنوا معه هناك-رضوان الله عليهم جميعا- ما حفزني للبحث عن المصادر والكتب التاريخية التي تحدثت عن الإسلام في أرض الحبشة.
كم شعرت بالفجيعة وأنا أقرأ تأريخا دمويا تجاه إخوتنا المسلمين هناك، وكنت قد سمعت عن سيطرة الكنيسة وبطشها في القرون الوسطى بأوروبا، ولم أعرف أنها بتلك الدموية والإقصاء الديني العنيف، وأنها كانت موجودة قريبا منا إلى قبل 30 عاما فقط، في دولة لا تفصلنا عنها سوى مئتي كيلا فقط.
فالكنيسة الأرثوذكسية هناك –أشرس الكنائس على الإطلاق- كانت تمتلك ثلث الأراضي الإثيوبية، ولا يعيّن الإمبراطور إلا بعد أن ترضى عنه، ويتدخل الأساقفة في خصوصيات ومجريات الدولة، ويتبارى الملوك هناك إلى إرضائها عبر ذبح المسلمين والوثنيين. ومرّ في تاريخ المسلمين بتلك الأرض ملوك لن ينسوهم، جراء ما اقترفت أيديهم تجاههم، ابتداء من "يوحنا" في القرن السابع عشر الميلادي، الذي قرّر قواعد التفرقة الدينية، وحرم المسلمين من تملك الأراضي وفرض عليهم اعتناق المذهب الأرثوذكسي أو الموت.
ثم جاء بعده الملك "ثيودور" الذي زاد في اضطهاده للمسلمين وقبائل "أورومو" المسلمة منهم بالخصوص، وأدخلهم النصرانية عنوة، وعندما جاء القائد الإنجليزي "نابيير" دحره وقتله شرّ قتلة، تولى الملك "يوحنا الرابع" الملك، وورث الأسلحة الإنجليزية الحديثة، فاستبد بالمسلمين وقتذاك، وقام بحملة قاسية جدا عليهم، بما لم يفعله أسلافه، ولم يخلصهم من بطشه ودمويته سوى الحركة المهدية في السودان، التي أطاحت به في معركة شهيرة، وقطعوا أوصاله جزاء بما نكل بالمسلمين.
ويتولى "منليك" الحكم -مؤسس "أديس أبابا"- ويكمل ما فعله أسلافه بالمسلمين، ويلعب القدر لعبته، إذ يوصي هذا الملك بالعرش لحفيده من ابنته "ليج ياسو" وهو ثمرة زواج بين ابنة "منليك" وبين السلطان "محمد علي" الذي أجبره على التنصر، وقام هذا الملك الذي أعلن إسلامه وقتها -تولى العرش 1913م- بالتخفيف عن المسلمين، وأعاد لهم افتتاح المساجد، ولكن الكنيسة والدول الأوروبية ناصبته العداء، وخلعوه وعينوا "زوديتو" امبراطورا على الحبشة، وكان صغيرا في سنه، وعينوا الرأس "تفري" (الإمبراطور هيلاسلاسي فيما بعد) وصيّا عليه.
وجاء الإيطاليون واحتلوا الحبشة لأول مرة في تاريخها، حيث إن تلك الأرض لم تطأها قدم غازٍ أبدا، ومكثوا فيها خمس سنوات فقط، وعاد بعدها "هيلاسلاسي" امبراطورا، ومارس أبشع صنوف التفرقة الدينية، وبعد زواله في عام 1974م على يد أحد قواد جيشه "منغستوهيلي مريام" الذي أدرك كثيرا منا حكمه، تحوّلت إثيوبيا إلى دولة شيوعية، حتى العام 1991م ليأتي العهد الجديد الذي يحكم إثيوبيا اليوم، وأعلن قادتها أنها دولة ديموقراطية تنتحي العلمانية منهجا..
في هذه العجالة التاريخية التي كتبتها وقتذاك، أقرر أن تلك البلاد لم يحتلها غاز أبدا طيلة 4000 عام، إلا الإيطاليون الذين لبثوا خمس سنوات ورحلوا، وأن بهم جبروت ودموية وبطش وبأس شديد، ولولا أن الحركة المهدية في السودان أعلنت الجهاد على أشرس قائد حبشي نصراني فتك بالمسلمين وهو "يوحنا الرابع"، لما بقي الإسلام هناك.
مما علق في ذاكرتي -برحلتي تلك- رجلان، وهما معالى د.محمد عبده يماني، وأنا أرى له مساجد ومدارس في أحراش تلك البلاد، وقد زارهم -يرحمه الله، أما الرجل الآخر فهو الملياردير السعودي محمد حسين العمودي، الذي استثمر في تلك البلاد، بيد أنه ترك في كل قطعة أرض هناك مشروعا خيريا، من كفالة الأيتام وبناء المساجد، بما حدثني المسلمون هناك عنه بكثير من الحب والامتنان له، بل تجاوز إلى تعبيد الطرق وإنشاء الدور والمدارس، في لمسات محسن كبير تقبل الله منه، وبالتأكيد هناك محسنون كثيرون من بلادنا، عكسوا أصالة ديننا وبلادنا.
رأيت ببلاد الحبشة، جمال الطبيعة الساحرة، التي تأخذ بلبك بالكامل. أراض خضراء بديعة لا تنتهي على مرّ بصرك، وأنهار واسعة وطويلة جدا، وأتذكر بحيرة "تانا" منبع نهر النيل، تمتد حوالي 75 كيلا طولا، و45 كيلا عرضا، وبها جزر وكنائس من أكثر من 1500 عام، زرت بعضها وصوّرتها، فتلك البلاد من أجمل بلاد الله في العالم، ويا للغرابة التي تجعلك تسبح الله وتحمده على ما أنعم علينا ببلادنا، فالفقر فتك بأجزاء من بلادهم، وتضربهم المجاعات، ولا أنسى منظرهم وهم يمشون حفاة وعراة في الجنوب، نساء ورجالا من الوثنيين في أقصى جنوب إثيوبيا، في منظر صادم للفطرة الإنسانية.
أسوق هذه المعلومات في مقالتي، لأوصل رسالة للمجتمع والمسؤولين، بأنه من المهم معرفة نفسية هؤلاء الذين يتظاهرون ويحرقون السيارات في مدننا من هذه الجالية؛ وأن بقاءهم في بلادنا والموت فيها، أهون على بعض منهم من العودة لذلك الفقر، ولمناطق التخلف التي هي معزولة عن العالم تماما، بلا أية مظاهر مدنية ومقومات حياة.
أدعو من خلال هذه السطور إخوتي، بالإحسان إليهم، والتصدق بالطعام والماء، فأصالة أهل هذه الأرض تتبدى اليوم، تجاه أولئك المخالفين من كل الجنسيات، وقد تمددوا تحت الجسور والكباري في انتظار ترحيلهم.
أطالب جمعيات التطوع من شبابنا الوضيئين، الذين رأيناهم إبان سيول جدة، وقد أتونا في بيوتنا التي دمرها السيل، بكثير من التعاطف الاجتماعي، أن يهبوا لهؤلاء الذين سيرحلون، ودعونا نترك بصمة إنسانية تترجم رحمة هذا المجتمع، وندع لرجال الأمن مهمة الأمن تجاه المتجاوزين منهم، فليس لهؤلاء سوى الحزم، ولكن من رجال الأمن، أما المدنيون منا، فلا نتدخل إلا بمد يد الإحسان للنساء والأطفال والمسالمين منهم، بل حتى لو أكرمناهم ببعض الهدايا يأخذونها لبلادهم.
الأمور بالخواتيم، وستبقى في وجدانهم اللحظات الأخيرة في بلادنا، فلنحسن لهم كي تبقى صورتنا مشرقة بذواكرهم.