اجترار التاريخ، وسحبه من أطرافه وأقصاه، ومن ثم جعله قانونا للواقع المعاصر، هو من تأثير سيطرة التاريخ الجمعي واللاواعي على البشرية. عقيدة التاريخ الدموي استأثرت بعقل الإنسان اليوم أكثر من عقيدة المسالمة والمسامحة، فالدم والقتل أصبحا أكثر حضورا في حياة المجتمعات الإسلامية أكثر من حضور كل القيم النبيلة التي شرعها الإسلام. قوة الأيديولوجيا و"تعبوية" الناس على مر العصور كانت أكثر ميلا إلى الجانب المظلم، أكثر من إعلاء الجانب المنير.. هذا يفسر تعزيز الخلل الدموي الذي يجتاح مليار مسلم بخلاف بقية الشعوب والطوائف.

تخيل أن تكون هناك مناظرة ثلاثية بين مسلم سني ومسلم شيعي وملحد. ستتحول إلى مناظرة بين السني والشيعي وسيتشاجران كعادتهما، لأن الحوار ليس من أبجديات حواراتهم. سيفضون النقاش بمجرد أن يترضى السني عن الصحابة، أو بمجرد أن يلعنهم الشيعي، في حين لا يبالون بما يقوله الملحد ولو نسف دينهم بالكامل. هذا فقط، لنفهم أن الأيديولوجيات فقط لا علاقة لها بالعقيدة عند الأغلبية، فحب وكره البعض مقدم على وجود أو عدم وجود الله.

سأطرح لك مثالاعن انتصار الأيديولوجيا على كل ما هو قيمي، وعلى حساب الإنسان نفسه، مثال: إذا حدث يوما ما وفتحت باب منزلك وفوجئت بوجود أحد القتلة الإرهابيين الانتحاريين أمامك تجتاحه رغبة عارمة في قتلك لأي سـبب، فقل لي من سيحميك؟ عـندك الآن في هذه اللحظة، إرهابي تكفيري قاتل مسلح يقف في الـشارع الذي تسكن فيه، من الذي سـيتـصدى له؟ يا ترى هل سينزل أحد الوسطيين من بيته بمدفعٍ رشاش ليردع ذلك المجرم ويرده من حيث أتى؟ هل سينزل أحد الحقوقيين من بيته لنجدتك؟ هل سينزل أحد رافعي شعار الإسلام بريء من مثل هؤلاء للدفاع عنك؟ للأسف لن يـنفعـك أحد منهم بشيء.

سيذبحك الإرهابي، وسيصور الوسطي جثتك ويرفع صورتها من هاتفه الآيفون إلى موقعه الإلكتروني وأنت مضرج بدمائك، مع تعليق يختاره حسب حالته وقتها. وسيقوم الكثيرون من المدافعين عن الفكرة وليس الإنسان بـالترافع عن الإرهابي الذي قـتلك وإدانة محاكمته بحجة أنها حرب على الإسلام. وسيرفع المتفرجون دائما وأبداً صورك على "فيسبوك" و"تويتر" وأنت مقتول مع تعليق يقول: الإسلام بريء من مثل هؤلاء. أما أنت فلم تعد موجودا بعد الآن على قيد الحياة. بينما بقيت فكرة قتل الآخر قائمة بقوة. إذن عندما يتعلق الأمر بالوجود فلا تحدثني عن التاريخ والإجراءات والنظريات. نظرياتك لن تعيد من ماتوا إلى الحياة، ولن تحفظ لمن هم أحياء أمانهم وطمأنينتهم، فلنراجع بعقلانية الدموية التي تسكننا منذ البدء.