نقل القمامة وتنظيف المدينة يُعد في أنظار أغلبية الناس عملاً بسيطاً وقذراً، ولا يريده الكثيرون. غير أن هناك رجلاً صينياً استطاع أن يقلب المعادلة رأساً على عقب عندما مارس هذا العمل بكل جهد لمدة لا تقل عن عشر سنوات حتى حصل على نجم المدينة لأداء الخدمات في "بكين"، إنه عامل النظافة "رين شياو يون"، الذي صرح بعد نيله للجائزة: "أحب عمل النظافة هذا أكثر فأكثر بعد نيل هذه الجوائز، إنها تمثل اعتراف الناس بهذا العمل وثقتهم بنا.. أنا سعيد بممارسة هذا العمل طوال الحياة وسأسهم في سبيل نظافة وجمال بكين عاصمة الصين بشكل أفضل".
وإذا كانت الصين قد احتفلت في أكتوبر الماضي بإزاحة الستار عن تمثال ضخم بلون الذهب تكريماً لعمال النظافة في وسط أحد أشهر الشوارع في تلك المدينة، فنحن في السعودية نرفع (عُقلنا) شكراً واحتراماً وتقديراً لشباب الحرمين (مكة والمدينة) لأنهم شمروا عن سواعدهم ودشنوا حملة لنظافة الأحياء من النفايات المتكدسة بعد إضراب عمال النظافة مطلع هذا الأسبوع بسبب عدم تجديد إقاماتهم من الشركة المشغلة. وكما يُقال "إن من دروس المصائب عبرة الفوائد": شباب طيبة شعروا بمسؤوليتهم الاجتماعية في وقفة واحدة ترفع رأس الوطن، عندما مارسوا أعمال النظافة لأكثر من يومين في مختلف الأحياء التي يسكنونها كحي قباء بجوار مسجد قباء، وكذلك في أحواش المدينة مثل (البشرية) و(العرماني) وحي العوالي، أما عن تحرك شباب مكة فهو ليس بغريب عليهم في مبادرتهم الوطنية التي تعزز مفهوم الشراكة المجتمعية، لا سيما أن الحدث ذاته وقع عليهم قبل سنة تقريباً، والأجمل هنا أن أحد المواطنين من سكان مكة عبر عن سعادته بعودة العمال عن طريق استضافة عدد منهم وتقديم واجبات الضيافة من قهوة عربية وتمر وعصائر لهم في بادرة إيجابية منه، وتأكيداً على أهمية الخدمة التي يقدمها هؤلاء العمال البسطاء للمجتمع.
وهنا لنا الحق أن نتساءل: أين هي شركاتنا وبنوكنا ومؤسساتنا الكبرى عن القيام بهذه المسؤولية؟ ماذا قدمت لنا الشركات التجارية الكبرى أو البنوك نحو الاهتمام بالبيئة أو مكوناتها؟ ما المساهمات الفاعلة التي أسهمت فيها هذه الشركات حتى تقدم الخدمات المجتمعية والعناية بالإنسان؟ هل قدمت هذه الجهات ذات المسؤولية المجتمعية دعماً مادياً لمشاريع حيوية تهم مواطني هذا البلد مثل النظافة، ومكافحة التلوث، وغيرها؟ هل باتت هذه الجهات عديمة العطاء تأخذ من المجتمع ولا تعطيه، وكل ما يعنيها هو الحصول على أكبر قدر ممكن من الأرباح دون أن تمنح هذا المجتمع أدنى اهتمام أو رعاية!
إن كانت الدولة مسؤولة بالدرجة الأولى، فإن ذلك لن يعفي رجال الأعمال وأصحاب المؤسسات من تحمل المسؤولية والمشاركة إلى جانب الدولة على هذا الصعيد، بدل الاكتفاء بإبداء التذمر والانزعاج وتبني مواقف التفرج وانتظار الحلول.
الذهنية العامة لرجال الأعمال السعوديين تحصر المسؤولية الاجتماعية فقط -وفقط- في المشاركة في الأعمال الخيرية والحملات التطوعية وهم مشكورون ومثابون من رب العالمين، لكن المسؤولية الاجتماعية هي العطاء من أجل التنمية لتكون جزءاً لا يتجزأ من مهامهم، ولا يستقيم ذلك التأثير إلا بوجود أشكال تنظيمية ومؤسسية لها خطط وأهداف محددة بدلاً من أن تكون جهوداً عشوائية مبعثرة وخيرية قد تؤدي إلى الاتكالية، الأمر الذي يستوجب عليهم إعلان حالة استنفار لصنع حلول سريعة وجذرية.
أخيرا أقول: إن كان هناك فعلاً من يستحق وسام المسؤولية الاجتماعية فهم شباب مكة والمدينة.