-1-
الثورات في التاريخ البشري أنتجت فريقين: فريقا يعاضد ويسند الثوار. وفريقا آخر، يقف مع السلطة الحاكمة. و"الربيع العربي" والثورات الشعبية التي تحققت من خلاله، أنتجت الوضع ذاته. وخاصة في مصر وسورية، وقبل ذلك في تونس وليبيا.
والفريق المنتَج، عادة ما يضمُّ عناصر من الاقتصاديين، وعلماء الاجتماع، وعلماء النفس، ومن العسكريين، والمثقفين من شعراء، وكتّاب، ومحللين سياسيين وصحفيين.
ولو نظرنا اليوم، إلى حال الثورة السورية ضد النظام القائم الآن في سورية، لوجدناه لا يخرج عن هذه المنظومة. بل إن هذه المنظومة تتمثل في حال سورية اليوم، أكثر مما تتمثل في حال أي بلد عربي من بلدان "الربيع العربي"، خاصة أن الحال السوري أصبح حالاً عالمياً يتناوله الشرق والغرب على السواء، ويتصارع الشرق (روسيا) مع الغرب (أميركا وفي بعض الأحيان الاتحاد الأوروبي) على الانفراد في اللعب على أرضه، ضمن مصالحه، وأهدافه الخاصة.
-2-
يعتقد محمد ديبو، الباحث والمحلل السياسي السوري، أن الثورة السورية، فاجأت المثقفين السوريين بمن فيهم أولئك الذين دعوا إليها وشاركوا في فعالياتها منذ اللحظة الأولى، إذ لم يكونوا يتوقعون أن تتجذر وتتسع بهذه السهولة لتمتد إلى كل البلاد.
وهذا الشعور لم يكن خاصاً بالحال السوري اليوم، بقدر ما كان حال البلدان العربية وغير العربية التي ضربها زلزال الثورات في الماضي والحاضر، والذي أدى إلى انقسام المثقفين إلى ثلاثة أقسام، أو أكثر – في بعض الحالات – ولكن الانقسام الثقافي في الشأن السوري أدى إلى نشوء ثلاث فئات من المثقفين – كما يرى محمد ديبو – هي:
1- فئة انخرطت في الثورة منذ اللحظة الأولى، مشاركاً، ومنظراً، وفاعلاً، ومطوّراً لآليات نجاحها، متحملاً في ذلك عسف السلطة الذي لا يرحم، ورشاشات الكلام المحرِّض على القتل من زملاء آخرين، وعلى إثره دخل العديد من المثقفين السوريين السجن، ولا يزال بعضهم هناك حتى هذه اللحظة. وهرب البعض الآخر إلى خارج البلد، رغبةً بقول ما يشاء دون قيد، وهرباً من رصاصة قناص غادر. وبقي القسم الأكبر في سورية، مقاوماً بكلامه وجسده آلة سلطة، لا ترحم.
2- والفئة الثانية من المثقفين، وقفت على الحياد متفرجةً على دم شعبها، ينزف في الساحات، بحجة غياب البديل، دون أن يقدم أحد منهم بديلاً أو أفقاً أو رؤية، أو حتى يهجو الاستبداد، الذي هو السبب والمسبب، لانعدام البديل. وقسم كبير من هؤلاء، يبرر صمته وحياده، بأنه لن يكون جسراً لوصول المحافظين إلى السلطة، مما يعني ضمناً تأييد بقاء الاستبداد. وتنسى هذه الفئة أو تتناسى، أن الاستبداد هو ما أنجب التطرف، وأن التطرف هو أولاً وأخيراً نتاج تطرف سلطوي، أفضى إلى ما أفضى إليه، بعد أن أحرق كامل المساحات المدنية، وأعدم السياسة، وأبقى المجتمع في دائرة طوائفه، معبّداً الطريق بذلك لانتشار الأساطير كملاذ للبشر، مما يعني تهيئة الأرض الخصبة لنشوء الإرهاب. وبالتالي، فإن أول خطوة، لمحاصرة التطرف والإرهاب، تبدأ من القضاء على مسببها، ألا وهو الاستبداد.
كذلك، تنسى هذه الفئة أنها، إذا أرادت أن توقف الآخرين من الوصول إلى السلطة، فعليها أن توقفهم من موقع الفاعل، لا الصامت، والحيادي، والمتفرج. وأن المستقبل يُصنع بإرادة الفاعلين، لا الصامتين، أو المتمنين.
3- والفئة الثالثة من المثقفين السوريين، بقيت في مكانها المعروف. فهي منذ البداية كانت في صف الاستبداد، وستبقى، لأن الثقافة تتحدد لديها بمقدار المكاسب المتحصلة، وعليه يتحدد دورها كحارس لمصالح الاستبداد التي توحدت مع مصالحه، وبالتالي ستبقى في موقعها إلى حين سقوط الاستبداد.
-3-
تلك كانت فئات المثقفين السوريين الحالية. ولا بُدَّ لنا من الحديث الآن، عن طبيعة دور هذه الفئات الثلاث على ضوء ما أصبح عليه الحال السوري الصعب والقبيح، والذي لا يوجد وصف في أية لغة من لغات الأرض، يمكن أن يُعبِّر عن هذا الحال، من خلال الدمار، والتشرد، والجوع، والبطش، والنوم في العراء في هذا الشتاء القاسي.
وبعد التأمل في الحال الثقافي السوري اليوم، يتبين لنا:
1- أن جميع المثقفين السوريين يشتركون في خيانة دورهم الثوري، فيما لو اعتبرنا أن دور المثقف يتحدد بصفته النقدية؛ أي أن ينتقد كل ما لا يراه صواباً، حتى في بعض أفعال الثوار أنفسهم. فموقع المثقف الحق، هو في نظرته الناقدة الى مجتمعه، حيث ينتمي المثقف الحق تاريخياً– في بعض الظروف - إلى أصحاب الأحلام الكبرى، وضد عصابات الاستبداد والقتلة.
2- أصبحت مهمة جانب كبير من المثقفين السوريين التبشير بأفكار وأيديولوجيات فقط، دون نقد هذه الأفكار، وتلك الأيديولوجيات. وهو ما كان عليه حال المثقف في الستينات من القرن الماضي. وهذا الموقف – كما نعلم – يساهم في تكريس قبضة الاستبداد والطغيان، كما هو الحال في سورية اليوم.
3- يبدو لنا أن المثقف السوري مسحور، ومباغَت، ومبهور، بما يراه على الأرض من حركات شعبية، كان يحلم برؤيتها، بل كان قد قطع الأمل برؤيتها على مدى عقود تالية. ونتيجة انبهاره هذا، أعطى الحركات الشعبية كامل مشروعيتها، وأيدها. غير أنه في غمرة انبهاره وفرحه ذاك، نسي دوره النقدي، متناسياً أن الثورة كي تستمر، وتنجح، وتثمر، تحتاج إلى عقله وصوته النقدي، أكثر من حاجتها النظر فيها، والمدح لها، والثناء عليها.
4- إذن على المثقف الحقيقي السوري اليوم، أن يستعيد دوره النقدي الفاعل ليرى ما لا يراه الآخرون من أخطاء، بغية تصويب، وتطوير، وتجذير الثورة، كي يصبح احتفاله بالثورة فاعلاً، لا متفاعلاً، فحسب.