لعلي لا أغالي إذا قلت إن المجتمع قد اعتاد على خلط الجدل والحوار الفكري بالسب والشتيمة الشخصية، فنحن ننظر إلى الشخص ولا ننظر إلى أفكاره، والذي يطلع على ما يجري الآن في مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، يجد الجدل قائماً على هذا الأساس.
فقد نمت في الآونة الأخيرة ظاهرة العبارة الشهيرة "في نص الجبهة"، ومعناها إقامة الحجة والبرهان وبالدليل القاطع على الخصم في الحوار، ومن منطلق الآية الكريمة في قوله تعالى: {فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} البقرة، 258. فتحيَّر هذا الكافر وانقطعت حجته حسب مفهوم البعض في تفسير هذه الآية، مع أن البهتان في اللغة العربية تعني الظلم والكذب والافتراء، وليس معناها اختلاف الرأي أو بما يعتقده الطرف الآخر، أو ما يطرح من أفكار جديدة قد تخالف تقاليد وأعراف المجتمع.
وللأسف الشديد تم توظيف معنى "البهتان" واختزالها في عبارة "في نص الجبهة"، والتي ربما كان المقصود بها "انقطاع حجة الكافر"، فهم يظنون أنها من القوة بحيث لا يجدي معها أي برهان مناقض، وسوف يقتنع بها الخصم ومؤيدوه حالما يطلعون عليها وسوف يندمون على ما فرطوا من خطل القول.
ومن الأمثلة التي يمكن طرحها في هذا المقام، ما يتم تداوله من مقاطع فيديو على موقع (تويتر) بعنوان "تم قصف جبهة ليبرالي"، حيث يستعرض مجموعة من المقابلات والحوارات بين بعض الكتاب والمفكرين وبعض الدعاة ورجال الدين.
في المشهد الأول يتحدث أحد المثقفين عن آراء بعض المفكرين حول مسألة "الردة في الإسلام" وكيف أنهم ينطلقون من مبدأ الآية الكريمة: "لا إكراه في الدين"، ليرد عليه المحاور أو مقدم البرنامج، على ما أظن، بالقول: "من قال بذلك من أهل العلم؟". فرد عليه الضيف: "أنا قلت من المفكرين!". فقال المحاور: "إذا قلت إنه غير مختص في العلم الشرعي.. ليس لديه علم شرعي ويقول مثل هذا القول.."! وعلى هذا ينتهي المشهد بمؤثرات صوتية ساخرة كدليل على انقطاع حجة الضيف، وليس هناك ما يستطيع قوله بعد هذا البرهان القاطع.
وللتعليق على هذا أقول: فحتى لو أن الضيف جاء بأقوال أحد علماء المسلمين بما يخالف الرأي السائد حول موضوع "الردة في الإسلام"، فلن يقبل منه، على أساس أن هذا العالم هو من أصحاب العقائد الباطلة، فلا يعتد برأيه عند جمهور العلماء، كما أن مقولة "غير مختص في العلم الشرعي"، هي نوع من باب احتكار الرأي وإقصاء الآخر، وسد باب النقد الفقهي والديني، وهي في ذاتها ليس حجة على الآخر، فالدين من الله للجميع، ومن واجب كل إنسان أن يفهم دينه، ومن حقه أن يبدي وجهة نظره مهما كانت، فتدبر القرآن وفهمه ليسا قاصرين على العلماء أو المختصين وحدهم، فهذا واجب على كل مسلم، وبدون النقد والتساؤل وطرح وجهات النظر الأخرى ومناقشتها لا يستطيع المسلم فهم القرآن، وإذا اقتصر هذا الفهم على مجموعة معينة من الناس فنحن إذن نكرّس ونفعل مبدأ "الكهنوتية" في الإسلام، وهذا غير مقبول في دين الله.
أما فيما يتعلق بمقولة: "من قال بذلك من أهل العلم؟" أو عبارة "أعطني واحداً من العلماء أفتى وقال بهذا الكلام"، فهذا الكلام ينطبق عليه قول الله عزّ وجل {ما سمعنا بِهذا في آبائنا الأولِين}. وأقوال العلماء والفقهاء في الماضي تمثل اجتهادات وآراء بشرية تحتمل الصواب والخطأ، وهي قد تناسب ظروف عصرهم الذي عاشوا فيه، وهذه الآراء في ذلك الوقت كانت جديدة، وربما لم يسبقهم في ذلك أحد من العالمين.
نأتي للمشهد الثاني من مقطع "اليوتيوب"، وفيه يذكر أحد الضيوف مقولة لأحد أعضاء هيئة كبار العلماء بخصوص لفظ "لا يصح" في مسألة "دخول المرأة في الملاعب الرياضية" بدلاً من أسلوب التحريم والذي يعتبره الضيف نقلة جديدة في الإفتاء، وعند سؤاله من هو هذا العالم، قال بكل صراحة إنه "لا يذكر اسمه"، لينتهي المشهد بنفس الطريقة السابقة، بأسلوب تهكمي وساخر، وربما قصد معد المشهد أن الضيف يكذب في هذا المقام.
وهذا الأسلوب يعتمد على تصيد الأخطاء التافهة بهدف إبطال وتشنيع الرأي الآخر، فربما يخطئ البعض في اسم عالم أو اسم راو لحديث نبوي، وللأسف حدث ذلك بالفعل مع أحد أبرز الدعاة في حواره مع أحد المثقفين على موقع تويتر، وهنا يتم إغفال الفكرة الرئيسية من أساسها فلا تتم مناقشتها ودراستها، ليتم التركيز على الخطأ نفسه، والتشهير بالمخطئ كدليل على ضعف حجته ورأيه!
لست هنا في الحقيقة بصدد مناقشة الآراء التي جاءت في مقطع الفيديو، وإنما ألفت النظر إلى إشكالية ثقافية اجتماعية يعاني منها المجتمع في أسلوب الحوار والمناقشة، وهذا المقطع وعبارة "في نص الجبهة" بالتحديد تصلح لأن تكون أنموذجاً لما اعتاد عليه الناس في أسلوب الحوار.
فكما هو معلوم عند علماء الاجتماع أن الناس تكره الشخص الذي ينتقد عاداتهم وأعرافهم وعقائدهم، فيأتي من يؤيدهم على هذا الأمر، ويسوق الأدلة والبراهين على أحقية تلك العادات والتقاليد، ليهتف له الناس ويعدوه بطلاً فينصروه ويرفعوا من مكانته، فهو أفحم الأعداء وألقمهم حجراً، فيتعصبون أكثر لعاداتهم وأساطيرهم، وقد ينال الطرف الآخر الحقد والكراهية والأذى، فتتراكم الاختلافات والسخافات على حساب معالجة القضايا والمشاكل الحقيقية للمجتمع، فيسود الخنوع والاستسلام والجمود والكسل بين الناس.
فمتى تتم معالجة المجتمع وإنقاذ الناس من هذا الوباء العظيم؟