الثقافة خليط متشابك من كل شيء، وهي جزء أصيل من الموجهات العامة لميول الأفراد والمجتمعات وعنصر رئيس في سياسات الدول ومتى بلغت الفوضى مرحلة العدمية، هناك فقط، تنتهي صلة الثقافة بالواقع وتتعذر سبل العثور على مرجعياتها الصحيحة ضمن محركات النشاط الإنساني وانحيازاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. حين تغيب الثقافة الروحية والحقوقية والإبداعية ينشأ الوعي الزائف في حيواتنا ويصبح الاضطراب حائطاً سميكاً يحول دون رؤية الحقائق واستجلاء منابعها الثقافية إن خيراً أو شراًّ.. ومتى بلغ الأمر مرحلة الاضطراب تحظر الغوغاء وتتوقف عجلة النمو ولا يكون في وسع الناس الحصول على ضابط قيمي يفسر الوقائع ويتعاطى معها..
تذهب بعض نظم الحكم لانتهاج سياسات الإلهاء وصرف شعوبها عن التأصيل الثقافي بالاشتغال على أزمات المعيشة وتداول الشائعات وفقدان الحساسية تجاه القيم الناظمة شؤون المجتمع والدولة لتنفجر الأوضاع بغتة بنفس الأحزمة التي اعتقدتها النظم الحاكمة مصدر أمان يتعين الاعتماد عليه في مواجهة استحقاق المعرفة.
أتحدث عن الثقافة وضروب المعرفة الإنسانية بمختلف تلاوينها دون وسواس ذهاني يفترض نمطاً محدداً أو وصفة بعينها، وغالباً ما كان هذا الوسواس المتقلب شأنا محورياًّ يهدد وجهة السياسات الآنية المضطربة وتوظيفاتها للقيم وفق حاجاتها المرحلية بصرف النظر عن الآثار السلبية الناجمة عن الانتهازية السياسية وتهيؤاتها المريضة ورهاناتها على الجهل وسيلة مثلى لجني الأرباح وتحقيق المزيد من المكاسب غير المشروعة.
إننا لا نتشيع للثقافة ونحث الحكومات العربية على تبني مشروعاتها الحداثية الكبرى انطلاقاً من فرضيات طوباوية توزع حلوى الخلاص من معضلات الواقع عبر تهكمات ضبابية غائمة، إذ ليس من بين احتمالاتنا قيام مجتمع المثاليات الملائكية عبر مشروع ثقافي يغذي قيم الخير وينتظر حصادها السريع عدلاً وحرية واستقراراً وتعايشاً وعطاءً، فمذ بدء الخليقة لم يعرف الإنسان قيمة الخير إلا وكان نقيضه حاضراً يترصد الإنسان ويستحثه على الغواية والانحراف.. لكننا نجادل بشأن الثقافة في نطاق انحيازاتنا للدولة المدنية وقيم السلام ومحفزات الإبداع ومؤثرات الرؤية الجمالية على علاقة الأفراد والمجتمعات البشرية.. إذ متى اضمحل أثر الثقافة أو غيّبت فإننا لا نكون ضحايا الشر بطبائعه الاعتيادية كما في الفطرة وإنما نغدو رهناً لإفرازات الفجور الشرير المتلبس دور الفضيلة ومسحة الدين وبهرجات الشعار الوطني وجاهزية القتل؟
ويوم تبلغ المفارقة ذروتها وتتمدد ظواهر الغلو والتطرف ويصل الخطر حد استهداف المستوى الأول في تركيبة الهرم السياسي للدولة وقتئذ تتحرك دورة العنف الموازي ويأخذنا الاختلال إلى واقع كارثي لمستويين من العنف والعنف المضاد، وبإزاء ذلك يبدو التمييز بين معادلتي الجهل ومشروعية الردع المتجاهل شكلاً من أشكال الهرب من المسؤولية وحقلاً من مناورات التبرير!
وخلال عقدين مضيا جند النظام العربي ـ بالشراكة مع دول ومنظمات العالم ـ معظم قدراته فيما عرف بالحرب اللوجستية ضد الإرهاب، فاستخدمت أحدث التقنيات العلمية والخبرات الأمنية وتوسلت هذه الحرب صنوفاً من الوسائط الدينية التي زج بها في أتون الحوار مع قوى التطرف ولاحقاً تطور هذا الاختراع الحواري إلى توجه سياسي أميركي وآليات عمل قطرية تنافح عن جماعات الإسلام السياسي وتشجعها على استلام مقاليد الحكم في البلدان العربية، وبمقدمها دول الربيع الغائظ في محاولة غربية مكشوفة لاستغلال الدين وصفة سحرية تستميل التطرف وتسعى إلى إعادة تأهيل وتشغيل أدواته في بؤرها القادمة بعد الحقبة الأفغانية.
لم يتمكن التوجه الأميركي من بلوغ غاياته بفضل اليقظة المصرية السعودية الإماراتية، بيد أن جهد السياسة توقف عند حالة رد الفعل الوقائي على حين يظل الهدف من وجود رؤية استراتيجية مستقبلية رهناً لمشروع ثقافي ينتج المعرفة ويحشد مقومات الدولة المدنية القادرة على إحلال قيم العدالة الاجتماعية والشراكة وسيادة القانون.
وفي حال واصل الوطن العربي إعراضه عن الثقافة وعزف عن وضعها في طليعة أهدافه الرئيسة لبناء مجتمعات عصرية متماسكة تنبذ الاستلاب والتطرف فإن التعويل على المكاسب السياسية سيبقى مجرد رجع صدى، وستظل ثقافة الموت وعدسة الحزام الناسف تتحكمان بمصائر شعوبنا المحكوم عليها بالتيه إلى ما لا نهاية..