وصلتُ إلى بكين الأسبوع الماضي لمناقشة بعض القضايا الاقتصادية والسياسية مع المسؤولين الصينيين، وكانت فرصة لمتابعة عدد من القضايا منذ زيارتي السابقة في عام 2010، حين كتبتُ عن النمو الاقتصادي غير المسبوق في الصين، على الرغم من الأزمة المالية والركود الاقتصادي العالمي.

ولا شك أن "المعجزة الصينية" قد أذهلت العالم، بما في ذلك منطقة الخليج، حيث استطاعت الصين، خلال عقود قليلة، أن تتحول من دولة زراعية فقيرة إلى إحدى كبريات الدول الصناعية الغنية. وخلال العقد المنصرم وحده، انتقلت الصين تدريجياً من كونها الدولة السادسة في العالم من حيث حجم اقتصادها (بعد الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا) إلى المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، وحافظت على هذه المرتبة منذ عام 2010. وما زال الخبراء محتارين في معرفة أسرار هذه المعجزة الاقتصادية، ولكن مما لا شك فيه أن قرار الصين بإزالة القيود أمام المبادرة الفردية والقطاع الخاص هو أحد أهم تلك الأسرار.

ولكن هناك جوانب مُظلمة عدة لهذه المعجزة الاقتصادية، يجب أن نأخذها بعين الاعتبار ونحن نسعى لاستنساخ النموذج الصيني. وسأتحدث اليوم عما يتعلق منها بالتلوث البيئي والصحة العامة وحجب وسائط التواصل الاجتماعي ومنع استخدامها.

حالما تحطّ في مطار بكين، تلاحظ سحابة التلوث السوداء تلفّ كل شيء، فالمدينة كلها قد احتوتها تلك السحابة التي تتغلغل في كل مكان، في الشوارع والساحات وداخل البيوت والمكاتب، وتعيث ضرراً بالصحة والرؤية والتنفس. وعلى الرغم من جهود الحكومة لتخفيض تلوث الهواء، فإنه ما زال في ازدياد. ففي 1 نوفمبر، نشرت وكالة الأنباء الرسمية (شينهوا) تصريحاً لهيئة الأرصاد الصينية تقول فيه إن عام 2013 هو أسوأ عام منذ 1961 من حيث التلوث وعدد الأيام التي تجاوز فيها مستواه الحدود الآمنة.

وحسب تقرير هيئة الأرصاد عن شهر أكتوبر، مثلاً، كان عدد الأيام التي تجاوز فيها التلوث الحدود الآمنة (10-15) يوماً في الشهر في مناطق مثل بكين، وتيانجين، وشانهي، وهينان، وجيانجسو، وزيجيانج، وهوبي، وسيشوان، وهونان، وجواندونج، أي بعبارة أخرى كل مناطق الشرق والوسط الصيني تقريباً. وفي بعض تلك المناطق تجاوز عدد الأيام المشار إليها (20) يوماً خلال شهر أكتوبر!

وكانت الحكومة قد أعلنت في شهر سبتمبر عن خطة وطنية لمكافحة تلوث الهواء، ولكن نتائجها لن تكون ملموسة في أي وقت قريب كما يبدو. فهدفها الأول يقتصر على إلزام المدن والبلدات برصد نسبة انتشار ست مواد ملوثة في الهواء، ونشر نتائج ذلك الرصد بنهاية عام 2015. أي أن الأمر سيقتصر على الرصد والمتابعة دون إحداث تغيير في نسبة التلوث.

وخلال هذه الأثناء، تحاول بعض المدن اتخاذ إجراءات عملية لتخفيف التلوث، إذ تبنّت العاصمة بكين في أواخر أكتوبر "برنامج طوارئ" لتقليل عدد السيارات في الشوارع، بحيث يُسمح للسيارات التي تنتهي لوحاتها برقم زوجي بالسير يوماً، وذوات الرقم الفردي يوماً آخر. كما تلزم الخطة المدارس بالإغلاق عندما يصل مستوى التلوث إلى النطاق الأحمر. وبالمثل سوف يقلل عدد السيارات الحكومية في الشوارع بنسبة 30%، حسب أرقام لوحاتها. ولكن مستوى التلوث في بكين في معظم أيام هذا الأسبوع ما زال فوق ما يتحمله الإنسان غير المتعود على مثل هذا الجو الملوث.

وبالإضافة إلى تلوث الهواء، ازدادت مستويات تلوث الماء والغذاء في الصين. وكان المسؤولون هنا لا يسلّمون بوجود علاقة بين ذلك التلوث والأمراض الخطيرة التي انتشرت في عدد من المناطق الصينية. وأذكر، منذ أربع سنوات، وبعد زيارة سابقة للصين، أنني كتبتُ عما يُسمّى بـ"قرى السرطان" و"مدن الموت" في الصين، حيث ارتفعت نسب الإصابة بالسرطان في عدد كبير من المدن الصناعية. وكانت منظمات دولية، مثل منظمة الصحة العالمية، قد حذرت من النمو السريع في إصابات السرطان في الصين. وفي حين كانت الصحافة الصينية تنشر عن تلك المدن والقرى، كان المسؤولون لا يقرّون بوجود أدلة علمية على ذلك.

ولكن تغيرت الأمور الآن، وأصبح المسؤولون يقرون بوجود المشكلة، وهي خطوة أولى هامة نحو حلها. ففي أوائل هذا العام، بعد أشهر قليلة من تغير قيادة الحزب الشيوعي الحاكم، نشرت إحدى صحف الحزب باللغة الإنجليزية (جلوبال تايمز) خريطة لقرى السرطان، تُظهر انتشار تلك القرى على طول وعرض النصف الشرقي للصين. واقتبست الصحيفة من "الخطة الخمسية لمكافحة الأخطار البيئية للمواد الكيماوية"، التي أقرتها وزارة حماية البيئة، وتضمنت أن هناك "دليلاً واضحاً على أن التسمم الكيماوي قد أدى إلى ظهور (قرى السرطان) وغيرها من الأخطار الصحية الكبيرة، في مناطق كثيرة من الصين".

أما الجانب المظلم الأخير الذي أردت أن أتناوله اليوم فهو تضييق الصين على وسائط التواصل الاجتماعي، كجزء من سياستها في الرقابة على وسائل الإعلام. وربما كان من الصعب على القارئ أن يتخيل إمكانية حجب تلك الوسائط الشائعة مثل (فيسبوك) و(تويتر) و(يوتيوب)، ولكن الصين تحجبها جميعاً وتجعل التواصل معها مخالفة يعاقب عليها القانون. وبالنسبة لـ(تويتر) الذي حجبته الحكومة في عام 2009، أنشات له بديلاً صينياً هو (وايبو). وعلى الرغم من الحجب إلا أن ملايين الصينيين يدخلون في هذه الوسائط ويعرضون أنفسهم للمساءلة، وتقدر بعض المصادر عددهم بأكثر من مئة مليون شخص تمكنوا من الدخول عليها عبر استخدام (بروكسيات) خاصة، مما يشير إلى فشل محاولات حجب مثل هذه الوسائط المرغوبة بين الشباب على وجه الخصوص.

ومع تغير قيادة الحزب الحاكم في الصين العام الماضي، وتغير الحكومة هذا العام، أصبح بعض الصينيين يتساءلون، وهم يبدون إعجابهم بما وصلت إليه بلادهم من نمو اقتصادي مُبهر، عن الثمن الذي أصبحوا يدفعونه لهذا النمو في صحتهم وصحة أبنائهم وحريتهم الفكرية. وبالمثل فإن بقية العالم، ونحن نُبدي إعجابنا بنجاح النموذج الصيني، يجب أن نعي الأضرار التي يمكن أن ينطوي عليها اتباع هذا النموذج.