قرأت تقريراً عن احتفالية خاصة عقدت في مدينة مارسيليا الفرنسية لرفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) هذا الرجل المولود بمدينة طهطا إحدى مدن محافظة سوهاج في 15 أكتوبر 1801، والذي نشأ في أسرة كريمة الأصل شريفة النسب، يعد بحق من قادة النهضة العلمية في مصر في عهد محمد علي باشا، ينسب له جهد منقطع النظير في الترجمة في شتى مناحي المعرفة، إذ كان موقناً كما يقول في كتابه (تلخيص الإبريز في تلخيص باريز) والذي كتبه بعد خمس سنوات من مكوثه في باريس كإمام وواعظ لأربعين من طلاب بعثة مصرية: "ومن جملة ما يعين الفرنساوية على التقدم في العلوم والفنون سهولة لغتهم، فإذا شرع الإنسان في مطالعة كتاب في أي علم كان، تفرغ لفهم مسائل ذلك العلم وقواعده من غير محاكة في الألفاظ"، وانطلق في وضع منهج لتبسيط العربية وتطوير مناهج الدراسة في العلوم الطبيعية، وقرأت بعد فترة من الزمن مقالاً في مجلة الدوحة القطرية لجمال الشرقاوي يستدعي أعمال الطهطاوي العظيمة في إنشاء المدارس وإدارتها، وقوله: "... وتخرج من نظارات تعليمي من المتقنين رجال لهم في مضمار السبق وميدان المعارف سبع مجال، وفي صناعة النثر والنظم أبهى بديهة وأبهى روية. عربت لتعليمهم من الفرنساوية المؤلفات الجمة، وصححت لهم مترجمات الكتب المهمة... وسارت بها الركبان في سائر البلدان.. وكان زمني إلى ذلك مصروفاً، وديني بذلك معروفاً.. وفي مدة الثلاثين سنة لم يحصل لهمتي فتور ولا قصور".
هذا عالم وهب نفسه لصناعة الإنسان.. صناعة العلماء، إن خلق المثابرة والتصميم لمن أقوى ما يقاوم به الإنسان فيروس التخلف الذي يشل العضلات ويكبل العقول ويشوه النفوس، لأن الإنسان المتخلف كما يذكر الدكتور مصطفى حجازي في كتاب التخلف الاجتماعي يتسم بذهن لا مثابرة فيه، لا يستطيع معه التركيز في أمر ما إذ سرعان ما ينتابه التشتت ويداخله التعب، يريد الأمر السهل الميسر من أقصر الطرق ولا بأس لو كان حتى من دون طرق! إنه بحاجة إلى نتائج سحرية! يريد النجاح المطرد دائماً من دون تعب! ينطلق بحماس كبير ولكنه يفقد حماسه بالسرعة نفسها التي بدأ بها! ولذلك تكاد الخطط بعيدة المدى تصبح مستحيلة في العالم المتخلف، لأنه لا مثابرة ولا تصميم! ولهذا وكما يقول الدكتور حجازي يصعب على الإنسان المتخلف أن يكون باحثاً متخصصاً، لأن البحث يحتاج إلى جهد دؤوب ومثابرة تتغلب على صعوبات البداية... إذن السر يكمن في خلق المثابرة والتصميم في صناعة جيل من العلماء الباحثين الذين لديهم مناعة ضد فيروس التخلف.
وأذكر هنا بعد هذا العرض البسيط مثالاً بسيطاً في خدمة العلم والعلماء وغيره عشرات بل مئات في تاريخنا المعاصر قبل القديم، بل وفي تاريخ بلدنا المعطاء قبل البلاد الأخرى لعلماء وأدباء أسسوا وبنوا وصنعوا أجيالاً من العلماء في كل فن ولون، أذكر الجهد العلمي في صناعة العلماء الذي يبذله كرسي يحيى ومشعل أبناء الشيخ سرور الزايدي لأبحاث أمراض المفاصل والروماتيزم التابع لكلية الطب - جامعة أم القرى، نعم! لا نمارس دورنا في الإشارة والتنبيه إلى أسماء علماء مبدعين بدؤوا في غرس أولى بذور إبداعهم الذي سينبت ويزهر ليصبح أشجاراً وارفة في بستان العلم والبحث والإنجاز بتوفيق الله، إن المرء ليسعد حين يرى أطباء سعوديين تعطى لهم فرصة الكتابة والبحث فيذهلونك بمقدار الإمكانات التي لديهم والمثابرة والتصميم الذي عندهم، وكأنهم كانوا ينتظرون هذه الفرصة ليفجروا طاقات الإبداع لديهم، أذكر خالد البذلي، ومنال العتيبي، وسمر الوافي، وليلى الحربي، وإخلاص برديسي (من كلية الطب - جامعة الملك عبدالعزيز)، وقد كتبوا مراجعات علمية بتوجيه ودعم مقنن في طب الأمراض الروماتيزمية يعجز عن إنجازها بعض الأساتذة فإذا بجهدهم ينشر باسم الكرسي في مجلات علمية محكمة، وأذكر أيضاً دعاء كلنتن وهي تتدرب الآن في تخصص الطب الباطني ومثابرتها في تصميم وإخراج كتيبات تعليمية توضيحية موثقة برسوم وأشكال من تصميمها هي وفريق عملها لينشر العمل كحقيبة تدريبية يستخدمها الأساتذة والمدربون في موقع علمي محكم هو ميدإيدبورتال التابع لجمعية كليات الطب الأميركية، ولا أنسى القدرات الإدارية والتنظيمية الرائعة لعدد ليس بقليل من هؤلاء المبدعين وكأنهم يقولون نريد الفرصة لنري العالم ما نستطيع عمله! أوس الحازمي، ولجين قاري، وجهدهما وفريق عملهما العريض الذي أسهم في إنجاح يوم الكلية للبحث العلمي والذي قدم فيه ما يقرب من 100 طالب وطالبة أبحاثاً أنجزها منسوبو كلية الطب، متضمنة أبحاث الكرسي، أحمد الهباش، وأبرار سقطي، وجهدهما وفريق عملهما في إنجاح مهرجان بروا آباءكم والذي كان لفتة إنسانية رقيقة من طلاب وطالبات كلية الطب نحو فئة غالية علينا جميعاً هم آباؤنا وأمهاتنا، محمد سمنودي، ومحمد شبراويشي، وحسان الوافي، وفريق عملهم وجهدهم في تنظيم الرحلات التعليمية لتدريب الأطباء في مهارات الفحص المبكر لالتهابات المفاصل الروماتيزمية، والتي تم عقدها في عدد من مدن المملكة، حنين حافظ، وسعود المسلماني، وكيف رتبا مع فريق عمل يوماً تدريبياًّ بإشراف الكرسي لطلاب وطالبات السنة السادسة والأخيرة في كلية الطب، والذي أصبح عادة سنوية للكرسي العلمي، عبدالله المجنوني، وفريقه العلمي وهم يسدون فراغاً في تدريب الأطباء على مهارات الفحص السريري للمفاصل فيقومون وبإشراف الكرسي بتصوير فيديو تعليمي في معمل المهارات السريرية في كلية الطب لأربعة مفاصل رئيسية استخدمت في جميع البرامج التدريبية التي عقدها الكرسي، إن نفراً من هؤلاء الأطباء العلماء ينتدب ليذهب إلى مدينة أخرى لينهي دراسة علمية استطلاعية يجريها الكرسي كآلاء الرحيلي، ومحمد سمنودي، ومن علمائنا هؤلاء من وقف وقدم أبحاثاً لهم تحت إشراف الكرسي في محافل محلية وعالمية، خالد البذلي، وليلى الحربي، وغدي عبدالمجيد محلياًّ، وهديل خداوردي.
وإنها لسعادة كبيرة أن ترى الثقة في النفس لدى أبنائنا هؤلاء ومدى الانطلاق الذي سيحصل - بأمر الله - في نمو وبناء شخصياتهم العلمية الأكاديمية بعد هذه المشاركة المتميزة، كل هذا الإبداع أثنى عليه بإسهاب معالي مدير جامعة أم القرى الأستاذ الدكتور بكري عساس، مكرماً الباحثين المشاركين في أنشطة الكرسي وفريق العلماء الناشئ هذا من أبناء الجامعة. إن أولى خطوات التميز في البحث العلمي هي صناعة العلماء في وقت مبكر.