كنت قد تحدثت ـ في مقالات عديدة ـ عن عدم ملاءمة جوانب من الفقه التقليدي مع احتياجات المجتمع المعاصر، وضعف أدواته في استيعاب المستجدات والمتغيرات الحديثة، بالإضافة إلى وجود مقاومة شرسة لأية حركة تجديدية في هذا المجال، الأمر الذي أدّى إلى تعطيل الكثير من القوانين والتشريعات في المجالات الحقوقية وخاصةً فيما يتعلق بقضايا المرأة.

وهذا الفراغ في التشريعات، أعطى الفرصة لضعاف النفوس وأصحاب المصالح لهضم حقوق المرأة والتلاعب بأموالها ومقاومة أية عملية إصلاحية وذلك باسم الدين والشرّع، وأفضل مثال يستدل به على ذلك هو "ميراث المرأة".

لا ريب في أن نظام الإرث الذي جاء به الإسلام يتفوق على سائر الأنظمة البشرية القديمة والحديثة على السواء، ولا مجال هنا لاستعراض الأدلة والشواهد لإثبات هذه الحقيقة، فقد كان الناس في الجاهلية يحرمون المرأة من جميع الميراث ويستولي عليه الإخوة والأعمام (العصبة).

ولا أبالغ إن قلت إن هذه (العصبة) في أيامنا هذه وفي القرن الواحد والعشرين استولت على أموال المرأة وحرمتها من الميراث باسم أحكام الفقه الإسلامي، وذلك من خلال استغلال بما يسمى بـ "الوكالة الشرعية" و"وصية الوارث" و"حصر التركة"، فنسمع ونقرأ بين الفينة والأخرى عن قضايا كثيرة قابعة في المحاكم تستمر لسنوات طويلة، يستغلها "العصبة" من خلال المماطلة في الحصول على أكبر قدر ممكن من ميراث المرأة.

فمسألة "الوصية لا تكون إلا في الثلث من تركة الموصي" و"لا وصية لوارث"، جعلت من الناس من لا يهتم بالرجوع للمحكمة لحصر التركة، والاكتفاء بكتابة الوصية فيما يتعلق بالثلث، وغالباً ما تكون في (أضحية) أو (بناء مسجد) أو (وقف خيري)، ويكتفى بوجود شاهدين للتوقيع على الوصية ومن ثمّ التصديق عليها من المحكمة، كما أن البعض يرى عيباً في الرجوع إلى المحاكم قبل الوفاة لحصر التركة، وآخرون لا يريدون الإفصاح عن أموالهم وممتلكاتهم لأسباب ثقافية واجتماعية.

وبناءً على ما سبق، نجد إشكالية في عملية "حصر التركة"، فأموال (المتوفى) غير معلومة ويصعب حصرها، مما يسهل عملية الاستيلاء عليها بكل سهولة، لذا يلجأ الورثة إلى "الوكيل الشرعي"، وقد يكون هذا الوكيل من (العصبة) العم أو الأخ أو شخص آخر يتم الاتفاق عليه من قبل الورثة.

ونظراً لضعف الثقافة الحقوقية والقانونية في المجتمع، لا يتم اللجوء إلى المحامين المرخص لهم نظاماً في عملية حصر الإرث، فكما ذكرت آنفاً يكون "الوكيل الشرعي" من العصبة أو شخصا يكون من أهل الخير والصلاح ليتم الوثوق فيه، وبالتالي يكون هذا الوكيل بديلاً عن المحامي، الأمر الذي أدّى لوجود محامين وهميين باسم "الوكالة الشرعية".

وهذه الوكالة تعطي صلاحيات "للوكيل" في عملية حصر التركة دون وجود ضمانات قانونية لها، حيث يستطيع "الوكيل" معرفة أموال المتوفى، ويستطيع التصرف بهذه الأموال من خلال البيع والشراء، وهنا تنشأ مخاطر التلاعب بأموال الورثة وخاصة النساء.

فالوكيل يستطيع إخفاء جزء من أموال المتوفى، فالتركة غير معلومة ويصعب حصرها، وبالتالي يستطيع بيع الأراضي والعقارات غير المعلومة وتحصيل الديون أو الإيجارات من خلال صك الوكالة، وإيداع مبالغها في حسابه الشخصي أو في حساب أحد أقاربه وأبنائه للتمويه وإخفاء هذه المبالغ.

والمخاطر السابقة، يعلمها ويدركها فقهاء المسلمين اليوم، ويدركون أيضاً أن الوضع الحالي لنظام الإرث يستخدم لخدمة إقصاء الإناث من الميراث، ومع ذلك لا نجدهم يتحركون نحو إصدار أحكام وقوانين جديدة تنظم عملية حصر وتوزيع الإرث وتضمن حقوق النساء والأطفال في ذلك، بل نجدهم يستخدمون الوعظ في مثل هذه المسائل، وينصحون الناس بعدم أكل الأموال بالباطل، وليس هذا فحسب، بل يتصدون لأي دعوة تنادي بالنظر في مسألة "ميراث المرأة " بالقول بأنها من " الشبهات التي أثارها أعداء دين الله، وادعائهم بأن الإسلام هضم حقها حين فرض لها نصف ما فرض للذكر... ينم عن جهل عظيم من هؤلاء المتعالمين، الذين أرادوا أن يطعنوا في الإسلام بما هو ميزة في فيه"!

والوقائع والمخاطر التي تنشأ بسبب تمسك البعض بأحكام الفقه القديم، ليست شبهات يراد بها الطعن في الإسلام، وإنما مظالم موجودة على أرض الواقع، والشبهات الحقيقية التي تطعن في الإسلام هي السكوت عن هذه المظالم وعدم التحرّك نحو معالجتها والحد من آثارها السلبية.

والإسلام يتضمن مبادئ عادلة واتجاهات عامة وأخلاقية رفيعة، ولكن هذه المبادئ تحتاج إلى قواعد وقوانين وتشريعات تنظم تطبيقها حتى يكون لها وجود فعلي في واقع الناس، لتكون هذه القوانين أداة لترسيخ المبادئ التي جاء بها الإسلام، والوضع الحالي لمسألة "الإرث" المطروحة في هذا المقام للأسف هو في الحقيقة وسيلة لتشويه ونقض هذه المبادئ.

في الماضي، استطاع علماء المسلمين وفقهاؤهم وضع قواعد التطبيق لميراث المرأة، وعملوا على ضمان عدم حرمانها المتمثل في توريث الذكور دون سواهم، واهتموا بظروف عصرهم الاقتصادية والاجتماعية. وهذه القواعد هي من صنعهم وهي بالتالي من صنع البشر، وكانت صالحة لذلك العصر، فلماذا لا يمكن تجاوزها اليوم وخاصة أن الظروف قد تبدلت وتغيرت كثيراً؟

لئن استطعنا أن نصل إلى هذا الاستنتاج في مسألة: "ميراث المرأة"، فإن البرهنة تكون أيسر والاستنتاج يكون أوضح فيما يتعلق بمجالات الأنظمة والقوانين الأخرى، والمجتمع اليوم بحاجة إلى قوانين ملزمة لحصر وتوزيع أموال الإرث عن طريق المحاكم والاستعانة بالمحامين المرخص لهم نظاماً، ووضع إجراءات واضحة للتنفيذ حتى يتم الحصر الدقيق والصحيح للتركة وتوزيعها بشكل عادل على الورثة وحسم النزاعات بينهم، حتى لا يتم التلاعب بأموال المرأة والأطفال والضعفاء من الناس.