كنت أتابع بحماس مشهدا جميلا في فيلم لفتاة تركض وتركض على جانب الطريق، واستمر المشهد أكثر من 5 دقائق، وكأنه يحرضني ذهينا على تذكر شيء ما نسيته منذ زمن، شيء ما لم أعشه كما تفعل هي في ذلك المشهد المدهش الذي تتدفق منه الحياة: إنها قدماي.
عدت بالذاكرة إلى كل الأرصفة والشوارع التي مررت بها.. متى كانت آخر مرة ركضت بهذا الشكل المبهج؟ لقد كانت المفاجأة مؤلمة بقدر ما هي غريبة بمقاييس البشر الطبيعيين، الذين يستخدمون أقدامهم للركض، للتجول، للشعور بأنهم يسيرون على الأرض مثل أي مخلوق حي!. لقد أبكتني الحقيقة، فقد كانت آخر مرة ركضت على قدماي وشعري منساب، والعالم كله مجرد أرض وسماء، حين كنت طفلة! قبل أن يلبسوننا العباءات في سن مبكرة جدا، لدرجة أننا كنا نتعثر ونحن نسير، وكأننا نقدم ولاء عظيما للسواد وللطرق الضيقة التي تنتظرنا.
لقد تم اختطاف أقدامنا ذات زمن، وتكبيلها بقيود لا يمكن أن تحلها كل قوى العالم، مثلما تم اختطاف أشياء كثيرة من حياتنا.
إن رؤية امرأة تركض بعباءتها على جانب أحد الطرق سيكون مشهدا خارقا للعادة، ومشهدا يوصف بأنه الجنون ذاته، وهو الجنون الذي لا يمكن القيام به، ولا يمكن تقبله في مجتمعنا، بينما هو أمر عابر جدا وطبيعي جدا إذا ما كان في أية بقعة من بقاع هذه الأرض الشاسعة. إن هذا يبرر كل الثورة التويترية التي قام بها "زورو" المقنعين، حيث التشابه هنا كونه فارسا ملثما يرتدي عباءته السوداء وقناعه الأسود، محاربا هنا أي شكل من أشكال الحياة التي تفكر المرأة في أي مكان أن تقدم عليه أو تفكر به!
حين هاجم الـ"زورو" المقنعين فكرةَ ماراثون رياضي قامت به طالبات جامعة نورة، لم يكتفوا بإنكاره وحسب، بل قاموا بإسقاط كل التهم التغريبية والتكفيرية، كون هناك مؤامرة تحاك ضد الإنسانية حين ركضت بعض الطالبات في محاولة لعيش حياتهن الطبيعية داخل مكان مغلق تماما، ولست أصدق أيا من تبريراتهم التي يبررون بها محاربة رياضة النساء، مثلما فعلوا بمحاربة مطلبها لقيادة السيارة خوفا على مبايضها من التلف. وهنا خوفا من تذكر أن لها قدمين يمكن أن تستخدمهما، خاصة بعد أن منعت من قيادة أية مركبة تسير على أربع. نعمة المشي على قدمين تم النظر إليها بعين الريبة؛ لوقف أية محاولات للركض والمشي على قدمين!.
ما يحدث من حولنا أعاد لذاكرتي ما كتبته منى حلمي، معاتبةً وطنها إذ تقول: "أريد أن أعيش في وطن لا يتطفل على خصوصياتي وأموري الشخصية. لا أريد وطنا يراقبني كأنني سلعة مهربة. يفتش عني كأنني بضاعة ممنوعة. أريد وطنا يدرك الحد الفاصل بيني وبينه.. وطنا يعرف، متى يسألني، ومتى يتركني".