هناك ارتباط وثيق بين الفكرة التي يحملها الإنسان وبين طبيعته النفسية، ومن الملاحظ أن الفكرة التي هي في طبيعتها عنيفة تصنع ذاتاً عنيفة، وتحقق للذات حضوراً وقوة وانتفاشاً، وهذه الصفة تجدها في الذين ينتهجون منهج "التكفير" و"الثورة " فتصنع شخصيات فيها من الخيلاء والوثوقية التي تضخم ذاتهم فينظرون للآخرين بنظرة ازدراء واحتقار ..
عقب الثورة الفرنسية التي كانت علامة فارقة في التاريخ الأوروبي والعالمي انقلبت على مبادئها المعلنة والتي كانت في غاية الرقة والإنسانية، فالحرية والمساواة والإخاء التي كانت أثافي الثورة والتي قامت من أجلها ما لبثت أن أصبحت طريقاً للتوحش والتغول والاستبداد على الآخرين، فالويل والثبور لمن يواجه الثورة أو ينتقدها أو يكون له رأي يخالف نسقها، فهي بمجرد الثورة أعطت نفسها الحق أن تكون هي الخصم والحكم، شعاراتها وتصرفاتها معصومة لا تقبل النقاش، فكان كل من يناقش مبادئ الثورة يعتبر زنديقاً ويستحق مصير الزنادقة على رأي ج. بيودي، فأصبحت الشعارات التي قامت من أجلها خاوية من معانيها حين استخدمت "الدموية" المفزعة والممنهجة ضد مخالفيها وقمعهم بأشد ما يكون من وحشية وتطرف.
هذا التطرف الثوري في الموقف من المخالفين ليس هو حكراً على الثورة الفرنسية، فكل حركة ثورية تاريخية وواقعية كانت تنحو نحو التطرف ضد المخالفين، وتنقلب – في الغالب – على القيم المعلنة منها، وخاصة حين تكون أفعالها محركة من قبل أصحاب المصالح الذين يركبون الفعل الثوري لتحقيق مكاسبهم الخاصة، ولا يستطيعون الوصول إلى هذه المصالح إلا عبر تصفية الخصوم، ولذا تجد المتحدين على مبدأ مواجهة السلطة الدكتاتورية سرعان ما تنشأ بينهم المعارك الطاحنة حول الغنائم والمكاسب والأرض، والحالة السورية تعطينا مثالاً واضحاً على التشظي والسوء العلائقي بين الذين ركبوا الفعل الثوري، فكل فئة تلعن أختها وتهددها بالقتل والويل والثبور، وكل فرقة تزايد على صحة مواقفها وضلال مواقف الآخرين، حتى وصل الحال بهم إلى الاقتتال والافتراق، وهاهي الحالة المصرية كذلك تشهد هذا النوع من الخصام المرير الذي لا يضع للتفاوض والتقارب أي مجال، فأصبح الخطاب – وخاصة بعد عزل الرئيس مرسي – خطاباً متطرفاً من كافة التيارات الإسلامية والقومية والليبرالية، وأصبح الناس مهيئين للانقضاض على بعضهم البعض في أي لحظة، وما هذا إلا نتيجة وأثر نفسي لما جرى في 25 يناير وما تلا ذلك من أحداث راح ضحيتها مئات الضحايا وآلاف الجرحى والذي انعكس على النفوس والضمائر.
إن التطرف الثوري لا يسري فقط على النزعات المتطرفة أيديولوجياً، بل يتحول ليكون نسقاً اجتماعياً يحتاج الناس معه إلى زمن طويل حتى يندمل هذا التطرف وهذا التضخم الذاتي والنزعة الانتقامية والعدائية تجاه الآخرين، ويهيئ الجو لحمل الفكرة المتطرفة، سياسية أو أيديولوجية.
إن خطاب "الفسطاطين" سمة ثورية متطرفة، يستخدمه الجميع بلا استثناء، ويبرز في الجماعات التكفيرية أكثر من غيرها، فحين أخرج أيمن الظواهري "داعش" من إطار تنظيم القاعدة أخيراً أصدر أبو بكر البغدادي، أمير دولة العراق والشام الإسلامية، بياناً أكد على هذا المبدأ ورفض تصرف الظواهري ودعوته جميع المجاهدين في العالم إلى التوجه إلى الشام لسحق الرافضة والمرتدين، وأن الناس بين فسطاطين، فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفساط كفر لا إيمان به، تماماً كما فرز أسامة بن لادن الناس حين غزو أميركا لأفغانستان بعد الحادي عشر من سبتمبر، وهذه حالة حاضرة في الحالات الثورية التي تقوم على مبدأ: "من لم يكن معي فهو ضدي"، بل ربما يكون الحال: من ليس معي فهو مع الشيطان.