منذ عهد الفلاسفة اليونانيين أرسطو وأفلاطون وغيرهما، مروراً بعصور الفلسفات الاشتراكية ثم الرأسمالية، وليس انتهاء بعصر النظريات العلمية المعاصرة، والجدل والنقاش ما يزالان مستمرين حول "تطور المجتمعات".

نعم خلال كل تلك القرون تطورت مجتمعات ونشأت حضارات عظيمة واندثرت أخرى، إلا أن السؤال القائم دوما، يدور في فلك كيفية تطور المجتمعات! وماهو الجانب المحوري الذي يمثل أيقونة التطور وتتبعه بقية المحاور؟

البعض يرى أن التطور في المجال الصناعي هو الأساس والركيزة، والبعض الآخر يجزم بأن النهضة الثقافية والاجتماعية والتعليمية هي الأساس، ومجموعات أخرى ترى التطور والحضارة والتقدم في وجود قوانين حضارية تضبط حركة المجتمع وتتيح لكل فرد فيه بأن يبدع في مجاله من خلال توفر البيئة القانونية والتشريعية المناسبة، والبعض يراه في ذلك مجتمعا.

بالتأكيد ليس لدي إجابات حاسمة تضع حداً لهذا الجدل المستمر، لكن وجهة نظري الخاصة تجزم بأن التعليم هو الأساس في نهضة وتطور أي مجتمع، ذلك أنه يعد ركيزة أساسية لنهضة الأمم، فالكثير من الدول التي تطورت وتقدمت هي التي وضعت التعليم في رأس أولوياتها باعتباره القاطرة التي تعبر بالمجتمع نحو آفاق التقدم والتطور، إذ إن أي نهضة في أي مجال من المجالات ترتكز على التنمية البشرية التي عمادها إصلاح نظام التعليم والتدريب وخططه وأهدافه ومناهجه، كما أن التجارب العملية أثبتت أن التعليم من أنجع الوسائل لإحداث الحراك والتغيير الاجتماعي، وقادر على استيعاب وفهم وشرح وتوجيه المتغيرات التي تطرأ على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، وإنتاج عقول مفكرة وواعية وقادرة على إدارة وبناء مؤسسات المجتمع وركائزه الأساسية، لذلك أعتقد بأن التعليم هو الوسيلة الفعالة، لإنجاز مفهوم الاندماج والانسجام بين مختلف أطياف ومكونات المجتمع، وهو الذي يهيئ الكوادر البشرية والكفاءات الإنسانية القادرة على بناء التطور والقيام بخطوات ملموسة في مشروع التقدم، ومشروعات التنمية بكل مستوياتها.

تلك التجارب التي تؤكد دور التعليم في تحقيق التطور والتقدم في المجتمعات من حولنا متعددة، مثلما حدث في ماليزيا، فعندما تولى مهاتير محمد الحكم عام 1981م، راهن على تغيير وجه ماليزيا والنهوض بالدولة من خلال التركيز على ثلاثة محاور أساسية، كان في مقدمتها التعليم ثم التصنيع ويخدمهما المحور الاجتماعي. وتركز اهتمام مهاتير بالتعليم بشكل كبير على مرحلة ما قبل المدرسة الابتدائية، حيث جعلها جزءًا من النظام الاتحادي للتعليم، واشترط على جميع دور رياض الأطفال الالتزام بمنهج تعليمي مقرر من الوزارة يتضمن مواد تنمي المعاني الوطنية، وتعزز روح الانتماء مع الوصول إلى المرحلة الابتدائية، لتصبح العملية التعليمية في المرحلة الثانوية شاملة يدرس فيها إلى جانب العلوم والآداب المجالات المهنية والفنية، مع الحرص على إنشاء كثير من معاهد التدريب المهني لاستيعاب طلاب المدارس الثانوية وتأهيلهم لدخول سوق العمل، خاصة في مجالات الهندسة الميكانيكية والكهربائية وتقنية البلاستيك، ليواكب مرحلة التصنيع التي سارت جنبا إلى جنب مع المرحلة التعليمية، كما قامت الحكومة الماليزية بوضع خطة شاملة في مجال التعليم كان من بين أهدافها إدخال الحاسب الآلي وشبكة الإنترنت في كل مدرسة، وفي كل فصل دراسي حتى بلغت نسبة المدارس المرتبطة بالإنترنت عام 1999 أكثر من 90% ، وبفضل ذلك تمكنت ماليزيا في فترة لا تتجاوز العقدين أن تتحول إلى إحدى أهم وأسرع الدول التي حققت قفزات كبيرة وضعتها ضمن الدول المتقدمة والمتطورة في المجالات كافة.

ليست ماليزيا وحدها التي حققت نهضتها في زمن قياسي بالتركيز على التعليم، وإنما سبقها الكثير من الدول مثل فنلندا وسنغافورة واليابان، وتبعتها أخيراً تركيا القريبة من الواقع العربي، إذ أعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عام 2011، عن إطلاق مشروع تعليمي جديد عرف باسم "مشروع الفاتح" للانتقال إلى عالم التعليم الرقمي، ويرتكز المشروع على فكرة تقليل حمل الطالبِ الكتبَ من ناحية والانتقال إلى عالم التقنية من ناحية أخرى، حيث تقوم الحكومة بتوزيع حاسوب لوحي I" Pad‏" على 15 مليون طالب، ليتمكنوا من الحصول على جميع الكتب المدرسية من خلاله، إلى جانب تركيب ألواح ذكية في 260 ألف صف مدرسي، ليكون بذلك أكبر مشروع استثماري في مجال التربية والتعليم التركية تقدر تكلفته بسبعة مليارات دولار.

الأكيد أننا بحاجة إلى مراجعة نظامنا التعليمي، وصياغة مشروع تعليمي ضخم ينقل البلاد إلى مواقع الدول المتقدمة والمتطورة، ويستوعب مظاهر النهضة التي حققتها السعودية في مجالات كثيرة بالاعتماد على خبرات وكفاءات أغلبها من الخارج، نعم هنالك مشروع الملك عبدالله للابتعاث الخارجي وهو مشروع ضخم مكّن الطلاب السعوديين من الاطلاع والنهل من أعرق الجامعات ومدارس التعليم المختلفة، لكنه ليس كافياً لتحقيق النهضة التعليمية التي تتبعها نهضة في كافة أوجه الحياة في المجتمع، ذلك أن أساس نهضة التعليم يبدأ من التعليم قبل المدرسي ويتضمن أنظمة ومواد التعليم في كل المراحل وليست المرحلة الجامعية فقط.