"سفر برلك" كلمتان نزلتا على أسماع أهل المدينة قبل حوالي مئة عام، كالصاعقة. كلمتان خبأتا بين حروفهما الرعب المزلزل لأسر المدينة داخل بيوتهم المتحصنين بها خوفا من الخطف المباغت، ولم ينج من حممها إلا القليل. أزاحت مسرحية "سفر برلك" - وهي كلمة تركية تعني الترحيل الجماعي - شيئا من الركام عن حقبة زمنية منسية من تاريخ المدينة المنورة، وسلطت الضوء على واقع عاشته المدينة عانت فيه مرحلة قاسية قبل أكثر من مئة سنة، حين تم إجلاء أهاليها، ولم يتبق منهم إلا عدد قليل. وعلى مدى قرابة الساعة، وعبر عرضين متتاليين، استعاد المتلقون مساء نهاية الأسبوع الماضي، تلك الحقبة على مسرح الإدارة العامة للتربية والتعليم بالمدينة المنورة، حيث تناول العرض المسرحي "سفر برلك" تأليف فهد الأسمر، وإخراج بادي التميمي، الجانب الإنساني لتلك المرحلة من تاريخ المدينة، المتمثل في كارثة التهجير الجماعي التي طبقتها الدولة العثمانية على رجال ونساء وأطفال المدينة، التي لم يتبق فيها سوى العسكر ونحو 140 رجلا فقط، وعدة نساء، حتى قدم إليها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ليوحد الجزيرة العربية تحت راية التوحيد، ولتحظى المدينة المنورة بأزهى سنواتها، بعدما عانت الجزيرة العربية عامة ومنطقة الحجاز والمدينة المنورة خاصة تبعات الحكم العثماني وما ترتب عليه من مجاعة وصعوبات العيش، وضنك الحياة، مارة بفترات عصيبة من تاريخها، بحسب رئيس اللجنة الإعلامية بفرع جمعية الفنون بالمدينة المنورة وائل رفيق، الذي وصف الزمن الذي قدمته المسرحية بأنه ربما كان من أقسى الفترات التي عانى منها أهل المدينة، وكان ذلك خلال الفترة من 1932 – 1936، قبل انضمام المدينة للكيان السعودي تحت راية التوحيد في عهد الملك عبدالعزيز - رحمه الله -، وتفاعل حضور المسرحية مع العرض، الذي كشف لهم كيف تم تهجير أهل المدينة لخارج الحدود ولم يبق فيها سوى العدد القليل منهم، عانوا بمجاعة قضت على الأخضر واليابس.

وكان الباحث في تاريخ المدينة المنورة أحمد أمين مرشد، قد اشتغل على مراجعة لآلاف الوثائق التي جمعها طوال نحو نصف قرن وتمثلت بمخطوطات وتسجيلات وصور، ليحول كل ذلك إلى شهادات تاريخية ترسم مشهدا مخيفا لنكبة "سفر برلك"، التي لا يزال أبناء المدينة المنورة يتناقلون القصص المروعة عنها، عن محنة أسلافهم طوال ثلاث سنوات بدءا من عام 1334، كواحد من أكثر الجراح إيغالا في ضمير مجتمع المدينة النبوية، وأصدر ضمن سلسلته عن تاريخ المدينة جزءا يتضمن تسجيلات ووثائق تحكي قصة "سفر برلك".

وحسب مرشد وغيره من المهتمين بتاريخ المدينة المنورة، فقد أدت عملية التهجير الجماعي الواسعة عبر قطار الحجاز إلى تمزيق النسيج الاجتماعي للمدينة حين فرقت تلك الأحداث الجسيمة بين الزوج وزوجته والأم وأبنائها والأخ وإخوته، ولم تترك حينها صغيرا ولا كبيرا دون أن تجرعه مرارتها التي لم تنته تاريخيا إلا في بداية 1338، وإن كانت آثارها السلبية ظلت مخيمة طويلا على كافة أطياف المجتمع المدني. ذلك إضافة إلى ضياع تركة ثقافية واقتصادية تمثلت بإهلاك وسرقة ودفن الكثير من المخطوطات والصكوك والذهب والمسكوكات النقدية.

وسعت المسرحية لمقاربة تلك الأحداث دراميا فمن كان مولده قبل 1334 أو بعده سواء كان رجلا أو امرأة أو طفلا أو شيخا مسنا لم يرحمه جنود فخري، حيث كان الجنود منتشرين وبعدد كبير داخل أسوار المدينة الثلاثة وبين أزقتها وحاراتها ولم يسلم - حسب المرشد - إلا من كان يسكن داخل الأحواش، أما الآخرون فقد تم جرهم ونسائهم وأطفالهم معاً أو متفرقين إلى عربات قطار الحجاز ليتم إلقاؤهم عشوائيا في العراق وتركيا والأردن وسورية.