هناك من يعتقد أن شبابنا مغيب، وأنه من السهولة بمكان تسييرهم، وأنهم جاهلون لا يفقهون من دنياهم شيئا، أو أن عقولهم أوعية فارغة تحتوي على ما يوضع فيه دون تمحيص، بل وإنه من الممكن تحريكهم بـ"الريموت كنترول، وأستطيع أن أقول: إن من يعتقد ذلك هو الجاهل والمغيب، فشبابنا يزدادون يوما بعد يوم نضجا ووعيا ورقيا، خاصة المؤهل منهم، لدرجة أننا لو توقفنا مليا وتدبرنا إمكاناتهم لاستطعنا ـ بحول الله سبحانه ـ القفز أبعادا متتالية إلى الأمام وبخطى ثابتة.

أعجب ممن انهزم داخليا، وأراد أن ينشر خواءه النفسي فيمن حوله، وعندما عجز عن إيجاد مريدين توجه لشبابنا معتقدا أنه قادر على تحقيق ما عجز عن تحقيقه طوال عمره المديد.. وأعجب ممن أُفسح له المجال للتشدق بما لا يليق تجاه حضارة وقف العالم الغربي لها إجلالا وتقديرا، معترفا بفضلها فيما وصل له الإنسان المعاصر من تقدم ورقي على كافة الأصعدة الروحية والإنسانية والحضارية.

فقد عرف عن أحدهم تحمسه الشديد للحضارة الغربية المعاصرة والحضارة الإغريقية القديمة، وليس هذا فقط، فهو يعلن دوما إيمانه بأنه لا وجود للحضارة الإسلامية، وأنه لا إنجاز حضاري للمسلمين، وأننا كشعوب كنا وما زلنا متقهقرين، فلا يمكن لنا أن نوصف بالمتخلفين، لأنه بحسب زعمه المتخلف يخوض السباق الحضاري، أما نحن ـ وكما نفهم من كلامه ـ فقابعون في أردان التقهقر، ولكنه عاد وناقض نفسه فقال: إننا متخلفون وإننا عالة على الحضارة الإنسانية، ولا يحق لنا أن نفتخر بما يسميهم فلاسفة المسلمين، لأنهم في الأساس تتلمذوا على الفكر الغربي!

الذي ظهر لي من تتبع أفكاره، أنه قد يكون - والله أعلم - منهزما نفسيا، وقد يكون مقتنعا أنه بفعله هذا سيخرج نفسه من أردان من أطلق عليهم تارة متقهقرين.. وتارة متخلفين، منكرا حضارة ما زالت تدرس في الجامعات الغربية على أنها حضارة أسهمت في إنارة العالم وأمدته بالعلوم التي مهدت له الطريق لما هو عليه.

هذا الموقف لا يعنينا كمواطنين دون غيرنا، فهو موقف يخص أمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، يعني أمة اقرأ، يعنى تاريخا برع فيه المسلمون في كافة المجالات العلمية.. إلى درجة أن الغرب ـ الذي عادة لا يجل إلا تاريخه ـ اعترف بدورها وبصماتها التي امتدت إلى يومنا هذا.. وكيف لا يفعل وقد كانت نبراسا للعلم والمعرفة والتقدم في وقت لم يكن لها منافس على وجه البسيطة.

قد أكون امرأة تنتسب لأمة متقهقرة بحسب زعمه، أو متخلفة كما يقول، ولكنني بالتأكيد أكثر وعيا وإدراكا ممن تبرأ من حضارة شاملة عظيمة كحضارتنا الإسلامية.. ومن منطلق أنه دوما يعلن أن الحضارة الغربية عظمت لأنها تؤمن بالفردية، أعتقد أنه يؤمن أنه فرد شذ عن القاعدة التي خرج منها، أو لعله ينتسب للحضارة الغربية، وإن لم يكن هذا أو ذاك.. فلا أعتقد أنه سيغضب لو قلت إنه متقهقر أو متخلف!.

ثم ما موقفه من شهادة الدكتور (فيليب حتي) المؤرخ اللبناني المسيحي، الذي ليست له علاقة بالدين الإسلامي أو بحضارته، فقد قال: "خلال القسم الأول من القرون الوسطى لم يسهم شعب من شعوب الأرض بقدر ما أسهم به المسلمون في التقدم البشري، وظلت اللغة العربية هي لغة العلوم والآداب والتقدم الفكري لمدة قرون في جميع أنحاء العالم المتمدن آنذاك، وكان من آثارها أيضا أنه فيما بين القرنين التاسع والثاني عشر الميلاديين - الثالث والسادس الهجريين - فاق ما كتب بالعربية عن الطب والتاريخ والإلهيات والفلك والجغرافيا كل ما كتب بأي لسان آخر".

ويجدر بي هنا أن أنقل بعض أقوال لعلماء الغرب ممن لهم شأن عظيم في الحضارة الغربية المعاصرة، وكل منهم تحدث عن إنجازات الحضارة التي أنكرها، فقد قال (جورج سارتون) المتخصص البلجيكي في العلوم الطبيعية والرياضيات ومؤسس علم تاريخ العلوم، الذي نال بعد تخرجه بعامين ميدالية ذهبية لبحث قدمه في الكيمياء: "كان شراح الثقافة الغربية كثيرا ما يهملون ما قام به الهنود والصينيون من تطوير للرياضيات، ولكن إهمال ما استحدثه العرب المسلمون من تطوير في هذا الجانب من شأنه أن يفسد مفاهيم كاملة ويجعلها غامضة، لقد كانت اللغة العربية هي لغة الرياضيات بما لم تبلغه أي لغة - سوى الإغريقية - ولن تبلغها أي لغة أخرى"، كما قال: "إن القدرة على إبداع حضارة عالمية وموسوعية بهذا الحجم، في أقل من قرنين من الزمان أمر يمكن وصفه ولكن لا سبيل إلى تفسيره تفسيراً كاملا".

ويؤكد (ويل ديورانت) المؤرخ والكاتب الأميركي المعروف: "أن ابن سينا أعظم من كتب في الطب في العصور الوسطى، وأن الرازي أعظم أطبائها، والبيروني أعظم الفلكيين فيها، والإدريسي أعظم الجغرافيين فيها، وابن الهيثم أعظم علماء البصريات، وجابر بن حيان أعظم الكيميائيين فيها، وأن العلوم العربية نمت في علم الكيمياء بالطريقة التجريبية العملية، وهي أهم أدوات العقل الحديث، وأعظم مفاخره.. بل وإن روجر بيكن، الذي أعلن هذه الطريقة في أوروبا، اكتشفها جابر بن حيان قبله بـ500 عام - خمسة قرون -".

ثم ماذا عن "بيت الحكمة" التي أسسها الخليفة هارون الرشيد - رحمه الله - في بغداد والتي تعد أول جامعة في التاريخ الإنساني، وحوت الآلاف من المخطوطات في كافة مجالات المعرفة والعلوم والآداب وكان الدخول إليها للدراسة والمطالعة والنسخ والتأليف والترجمة والتجليد مجانا، ثم ما رأيه في (الساعة المائية) التي أهداها مؤسس (بيت الحكمة) لملك فرنسا (شالمان) وأثارت إعجابه وإعجاب حاشيته، والتي كانت تسقط بحسب الوقت عددا من الكرات المعدنية على قرص نحاسي فيسمع صوتها من بعيد، إلا أن الرهبان جزعوا منها واعتقدوا أن بها شياطين فتسللوا ليلا وحطموها.

نحن لا ننكر الحضارة الغربية وإنجازاتها الحالية ولا يمكن أن نفعل، ولكن اعترافنا هذا لا يعني إلغاء حضارة إنسانية اعترف بها شرق العالم وغربه.

وأخيرا؛ لا بد أن أشكر شباب (جامعة اليمامة) الذين أثبتوا أننا في أيدٍ أمينة إن شاء الله، فمن يحترم نفسه يحترم الآخرين، وخروجهم بصمت ودون التطاول على المتحدث، أكبر دليل على رقيهم وثقتهم بأنفسهم وبأصولهم.. فهم يستحقون الشكر.