أعيد اليوم قصة ذلك الطالب السعودي الجديد في الأكاديمية الإسلامية السعودية في واشنطن، والذي حمل معه فكرنا وثقافتنا وانطلق بها نحو طالب أميركي مسلم ذي بشرة سوداء وشتمه أمام زملائه السعوديين بالعربية (إنه عبد)؛ فكان مصيره استدعاء والده وفصله من المدرسة لمدة أسبوع، بعد تعنيفه من زملائه ومعلميه والشرح له هنا (قانون)!.

وبقي في هاجسي وأمانيّ بتلك القصة وغيرها في تبني وطني لمشروع قضائي أو قانوني للقضاء على أعداء أنفسهم بالتمييز ضد الإنسانية ووضع حدود قانونية بمشاركة تصل إلى المنازل والمدارس ومناهجها والشوارع لتعلن عقاباً شديداً لكل من يجرؤ على الإنسانية وتجاوز حقوقها بكلمة أو تهمة أو تعامل.

تذكرت تلك القصة تزامناً مع أولى الجلسات للحوار الوطني في دورته السابعة للخطاب الثقافي السعودي، بمسمى "التصنيفات الفكرية وأثرها على الخطاب الثقافي" والذي ألهب عنوانه جدلاً بين المشاركين والممثلين للتيارات والأطياف المذهبية والفكرية المختلفة في المملكة، وفيه أجمعت الأطراف المشاركة على أن "وسائل التواصل الاجتماعي"، هي من قامت بتغذية وتعبئة أفراد المجتمع نحو حوار متطرف، وتصنيفات خاطئة!

لدى كل الشعوب عيوبهم ونسقهم الخاص، وليس عيباً أن نعترف بأخطائنا وعيوبنا ونحاول معالجتها، خاصة عندما تبدأ من عدم احترام (الإنسان) لنفسه ثم الآخرين، والإثباتات لدينا في الامتداد السلوكي واللفظي المتطرف في كل زوبعة عابرة أو متعمقة تثير آهات وجروحاً نازفة بتصنيفنا وتقسيمنا إلى "فسطاطين" بتلميحات أو تكتلات، ورغم أن كل زوبعة تظهر في وجهة نظري يُحمد لظهورها تحت أشعة الشمس وفي وضح النهار؛ لأنها تقودنا مباشرة ودون حجاب إلى كشفنا على حقيقتنا فقط وتجريد "حوارنا"، وتجعلنا نسأل أنفسنا لماذا تقودنا كل "زوبعة" إلى مناطق قاتمة من الحروب الاستنزافية المتطرفة الجديدة؟

وسأبدأ هنا بجزء من كلٍّ وإشكالية أسئلة لا تعرف الفروقات الفردية.. لماذا سمحنا أعواماً مديدة بتوالد المناهج الخفية في المدارس وما تحمله من عدم اعتراف بالآخر؟ لماذا مدارسنا لا تعالج بل تنمي الممارسات الخاطئة في كل سلوك؟ لماذا غابت القدوة بدءاً من المنزل والمدرسة والشارع؟ من المسؤول عن انتشار قنوات فضائية (مهايطية) لا تعترف إلا بالقبيلة؟ كم عدد الشكاوى التي وصلت لوزارة الثقافة والإعلام ضد مواقع وصحف إنترنت تركز على الإساءة الشخصية وإثارة التمييز بكل أصنافه؟ أين مخرجات ونتائج مركز حوارنا الوطني؟ وماذا فعل نُخبه نحو معالجة التصنيف المقيت والتمييز في المناطقية والعنصرية والطائفية والحزبية؟

وفي الاتجاه الآخر أسئلة ميدانية؛ تسأل عن مشاريع المكان عندما انحرفت عن مسارها، وعن حق الإنسان في صور بالغة "الاختزال" في خريطة وطن؟ وتسأل كم منتظرٍ لقرار تعيين، وموظف محروم انتظر ترقيته وذهبت لآخر قريب من "وسط" منطقة القرار، وكم من مبدعٍ هُمِّش وأُقصي بكل الطرق بمعيار ثقافة مسقط الرأس و(أيش تعود)؟! اسألوا إدارات التعليم وأقسام التوجيه والإرشاد عن حجم مشاكل طلاب مدارسنا نتيجةً لتلك الممارسات وإفرازاتها؟ اسألوا عن بعض الممارسات في انتخابات الأندية الطلابية في دول الابتعاث؟ والأسئلة تطول وتنزف دون أن تندمل!.

أعود استطراداً للأساتذة المشاركين والذين أجمعوا في الحوار الوطني على أن وسائل التواصل الاجتماعي، هي من قامت بتغذية وتعبئة أفراد المجتمع نحو حوار متطرف وتصنيفات خاطئة!، ومن هنا أخالفهم فيما ذهبوا إليه لأن أدوات التواصل الاجتماعي تبقى "وسائل" فقط؛ فالاستعدادات والاتجاهات موجودة وجاهزة لدى "إنساننا" نفسه ولذلك لا نستغرب انكشاف أقنعة وتعرية الكثير الكثير، خاصة ممن يتشدق مثاليّةً وينكر التمييز والتصنيف المقيت بكافة أشكاله وتجده أسفاً في الوقت نفسه يسابق في اتهام البقية بنفس التهم الجزاف؟!

إن الأرواح الشريرة التي تسكن نفوس البعض وموجات التمرد النفسي نحو التمييز والتصنيف المقيت بكل أشكاله؛ لن يطردها ويوقفها فقط سوى إصدار قانون يجرم أي سلوك تمييزي، سواء كان على أساس الطائفة، أو العرق، أو الجنس، أو المنطقة، أو القبيلة والعائلة، أو التصنيف المقيت.. ومن ذلك إلى حوارنا الوطني.. للمرة السابعة ومهما طرحت وبررت وأوصيت فكل مجتمع يتفشى فيه التمييز والتصنيف تضيع حقوقه، ولن يقضى عليه إلا حين يتحول إلى قانون مكتوب فقط وقناة رسميةً أو جمعيةً حقوقية تتولى مسؤولية مكافحة التمييز بكافة أشكاله، وتقدم كل من يمارسه للمحاكمة، لنضمن حقوق كل إنسان يعيش شراكة تكاملية حقيقية على طهر تراب الوطن، ولتعيش أجيال وطنية مندمجة ومنصهرة تعرف أن البقاء للوطن فقط، ولا عزاء لمزايديه وظلمة أفكارهم، ومنه يظل "حوارنا الوطني" وما سبق فراغاً مقالياً أو كلامياًّ لم ولن يعالج حتماً هذا الداء الزئبقي المعقد!.