إذا تأملنا ودرسنا الحركات الثورية (الإصلاحية) حول العالم في التاريخ المعاصر والمتقدم؛ فإنها دائما ترتكز على فكرةٍ ما أو أيديولوجيا يجتمع عليها أولئك الثوريون، غالبا ما يجمعها الاندفاع والحماس نحو الفكرة إلى درجة إلغاء العقل وربما تعمد إلغائه، وهذه النقطة في نظري ربما هي أخطر المزالق التي غالبا ما تكون سببا لنهاية مظلمة لأصحاب تلك الفكرة!

لا يمكن لنا نحن الشعوب العربية عموما أن نحقق الإصلاح الحضاري الحقيقي دون أن يكون متدرجاً وشاملا لكل نواحي الحياة بشكل متوازن.

فالإصلاح الحضاري يجب أن يتطرق للأفكار الثقافية والاجتماعية والعادات والتقاليد بالإضافة ضرورة مواكبة ذلك بتجديد ديني وسياسي وهكذا. وعندما تبقى خانة مشلولة ومعزولة عن الإصلاح والتحديث؛ فإن الإصلاح سيكون أعرجَ، شئنا أم أبينا.

عند الحديث عن الحضارة الحديثة؛ فإن أبرز الأمثلة هو مثال الإصلاح والتحديث الإنجليزي والذي خرج منه أغلب نواحي الحضارة الحديثة، كما يميزها الإصلاح النابع من الداخل والمتدرج والهادئ بخلاف غيرها من الثورات كالثورة الفرنسية مثلا.

يمكن القول بأن بداية مراحل الإصلاح الحضاري في إنجلترا بدأت في القرن السادس عشر الميلادي حينما انفصلت كنيسة إنجلترا عن بابوية روما، بفضل الملك هنري الثامن، وقد وقع هذا متزامنا مع بداية نشوء البروتستانتية التي أسسها مارتن لوثر آنذاك، وكان ذلك سببا في تحول إنجلترا من الكاثوليكية إلى البروتستانتية التي تُعطي الفرد حق التفكير والحرية الشخصية أكثر من سيطرة قساوسة الكنيسة الكاثوليكية.

والحقيقة أنه كانت قد بدأت في القرن السابق (الرابع عشر) حركة دينية إصلاحية أخرى في إنجلترا -وإن كانت متشددة-، تُسمى (Lollardy) نشأت آنذاك بقيادة (John Wycliffe)، وكانت تنتقد الكنيسة بشدة وتصفها بالفساد، مما أدى إلى فصل جون هذا من جامعة أكسفورد آنذاك، ومن أهم ما دعت إليه هو سيادة النص المقدس فقط (Scripture)، إلا أنه تم القضاء عليها مبكرا بعد ذلك.

المهم أن تلك الحركات كان تدور حول إيقاف الوصاية الكنسية على أفكار وحريات الناس، كما تدعو إلى إيقاف استغلال الدين لمصالح شخصية من خلال إضفاء القداسة على أشخاص القساوسة والرهبان أو حتى السياسيين آنذاك، إلى أن يصبح الناس جميعا لديهم الحق في التفكير والمساواة في الحقوق.

أعود وأقول إن الإصلاح الإنجليزي كانت له ركائز متعددة إلا أن الإصلاح الديني (وإن كنت أعتقد أنه لا أصلح من دين الإسلام دين الفطرة) كان من أهم الأسباب التي أفرزت الحضارة الإنجليزية. ولذلك لا يمكن فصل الإصلاح الديني عن الإصلاح الحضاري بأيّ حال، بل هو من أهم مرتكزاته.

كما أن من أهم مُسبّبات تلك الحضارة نشوء ما يسمى بالقانون العرفي أو العام (Common Law) الذي أسس للقانون الإنجليزي أو الإنجلوساكسون الشهير الذي انتشر في أنحاء العالم بعد ذلك، وكان هذا بدلا عن قوانين الكنيسة آنذاك (Church Canon Laws).

أعود للإصلاح في وطننا العربي؛ ففي نظري أننا نعيش مرحلة صراع عنيفة بين تيارات متضادة، وكلٌ منها يؤسس بأنه لا يمكن أن يلتقي مع الطرف الآخر، بل ينازعه بعنف وشدة، ودخلت المؤثرات الخارجية لتلعب على حالة اللاوعي العربي لتزيد من تعقيد الحالة.

لا يمكن لنا أن نحقق الإصلاح الحضاري ونحن نستصحب ونعيش حلم أننا منزَّهون من النقد، وأنه لا يجوز أن نمس تلك الأفكار المُستوحاة من التفسيرات الخاطئة، أو الأفكار الناشئة من العادات المتوارثة، والتي لا يمكن أن تتلاقى مع عصر ما بعد العولمة! البعض لا ينظر إلى منتجات الحضارة إلا من خلال زاويته السوداء الضيقة، فلا يرى إلا المنكر وكيفية منعه، مما قد يؤدي إلى خنق الناس وتمردهم في نهاية المطاف، الأمر الذي لا يرغب ذلك في استيعابه، وهو السبب الذي قد يؤدي إلى كارثة تعم الجميع في ظل سكوت وتخاذل العقلاء! هناك حساسية مفرطة من نقد بعض الأفكار أو الأحداث الماضية، وهذه مشكلة عميقة لا يمكن أن نصلح من وضعنا دون أن نتجاوزها بسعة الأفق وتوفير مساحة أكبر للآراء الشخصية واحترامها. هذا النقد يجب في نظري أيضا أن يمر عبر بوابة حسن النية وقصد الإصلاح ليس التشهير والتشفي من رموز الأمة وتاريخها.

كثيرا ما يروّج البعض لأفكاره وكأنها مسلّمات، وربما يُوالي ويُعادي عليها ويحرض أتباعه بعنف، وبعد مدة من الزمن نكتشف وربما يكتشف هو أنه كان مخطئا! وهناك الكثير من الآراء التي أصرّ عليها أتباعها بشدة وجلعوها مسلّمات، ولولا إرادة الله أن تجاوزهم المجتمع وإلا لكنا لا نزال نعيش في عصر ما قبل الحضارة الحديثة! إذاً يجب أن نراجع أنفسنا بحرية وسعة صدر وإلا مكانَنَا سنراوح.

في المقابل هناك من يعتقد أن الإصلاح الحضاري لا يكون إلا بالاستغناء عن الإرث الديني، ويستنسخ تجربة أوروبا ليطبقها على أمة كانت عزتها وقمة حضارتها بعد الإسلام وليس قبله!

أقول لمثل هذا الفكر؛ إنه لا يمكن لأي حضارة أن تقوم بلا فكرة تدور حولها، فقل لي بربك ما هي الفكرة التي سيقبل بها الناس في وطننا العربي بلا دماء ولا تمزق غير الإسلام؟ فكرة القومية مثلا هي في حقيقتها فكرة عنصرية وكانت سببا في تمزق العالم العربي أكثر من اجتماعه! وكذا بقية الأفكار الأخرى فكلها فشلت!

في نظري أن مزيجا متوائما من الإسلام والوطنية والمساواة في الحقوق والواجبات هي الفكرة الوحيدة القابلة للتطبيق، ولن يقبل الناس بغير ذلك، وإلا فإن النتيجة أن حضارة غير متصالحة مع نفسها ستنشأ مِعْوجّة وستسقط سريعا مُكِبّة على وجهها.